لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية أو دلالات ما جرى يوم الأحد الماضي -15 أيار- سواء على الحدود اللبنانية والسورية مع فلسطين المحتلة، أو في داخل فلسطين نفسها، أي في الضفة الغربية وغزة. ومقولة أن ما حدث فتح صفحة جديدة أو دشّن مرحلة جديدة من الصراع في فلسطين هي بلا شك عبارة صحيحة. وعموماً، لتوضيح وتفصيل وفهم دلالات الحدث يمكن تسجيل الملاحظات الأساسية التالية :-15 أيار الجديد كرّس الوحدة الوطنية الفلسطينية، أو ما يعرف بـ"الزمن الفلسطيني الجديد"، حيث جرت الاحتفالات بشكل مشترك في الداخل والخارج. غير أن الدلالة الأهمّ كانت في رام الله، أو في معبر قلندية، حيث الاشتباكات والعدد الكبير من المصابين، وإصرار اللاجئين هناك مباشرة أمام الجنود الإسرائيليين على حمل مفاتيح بيوتهم، والتأكيد على العودة إليها من جديد .-مشهد 15 أيار بشكله وجوهره الجديد أكّد مرة أخرى أن القضية ولدت أو نشأت عام 1948 .وبدون التعاطي الجدّي مع تداعيات وتجلّيات الصراع ،وفي القلب منها حق عودة اللاجئين، فلن يكون هناك سلام واستقرار في المنطقة. بمعنى آخر، كرّس اللاجئون حضورهم ووجّهوا ضربة قاصمة لكل التسويات و الحلول التي تتحدّث عن دولة في حدود حزيران يونيو 1967 ،دون الإعلان الواضح والصريح عن حق اللاجئين في العودة إلى مدنهم وقراهم التي شرّدوا منها في العام 1948 .-المسيرات أكّدت كذلك "الزمن العربي الجديد" والمرحلة التي نشأت إثر سقوط نظام حسني مبارك. التظاهرات في عدة مدن وحواضر عربية أعادت التأكيد على أن القضية الفلسطينية متجذّرة في الوعي والوجدان العربي، وأن ترتيب البيت الداخلي، وإزالة أنظمة القهر والاستبداد والفساد والتبعية، على أهمية ذلك، ليست سوى خطوة تكتيكية في اتجاه الهدف الاستراتيجي الكبير المتمثل في تحرير فلسطين .-15 أيار الجديد كرّس في السياق أيضاً الزمن العالمي أو الدولي الجديد، زمن الفيسبوك والإعلام غير الخاضع للرقابة، والدور المهمّ لمنظمات المجتمع المدني. وببساطة، إذا كان ثمّة اهتمام كبير بعبارة "الشعب يريد إسقاط النظام"، ودعم الشعوب العربية لنيل حريتها وتقرير مصيرها بأنفسها، فإن الأمر عينه ينطبق على الشعب الفلسطيني الذي يريد بدوره العودة وتقرير المصير والسيادة والاستقلال. وهو أمر منهجي ومبدئي من الصعوبة بمكان التنكّر له أو دحضه .-الأحداث كرّست كذلك فكرة التظاهرات الجماهيرية السلمية الحاشدة من أجل هدف سياسي واضح وصريح ،وهو في حالتنا حق الشعب الفلسطيني أو اللاجئين في العودة إلى ديارهم وقراهم ومدنهم التي شرّدوا منها. كنت أفضّل شخصياً الحفاظ على الطابع السلمي للتظاهرات، على أن تكون هذه الأخيرة غير موسمية، وإنما مقدّمة ومدخل ضمن عمل تراكمي ودؤوب لتسهيل زحف الملايين إلى فلسطين سيراً على الأقدام. الفكرة صحيحة وممكنة وواقعية، ولكنّ الظروف غير مؤاتية الآن، ولكنها حتماً ستصبح كذلك بعد سنوات قليلة .-لابدّ من قراءة وفهم رد الفعل الإسرائيلي على أحداث 15 أيار هذا العام التي ضبطت الدولة العبرية خائفة وغير مستعدة وغير قادرة على التصدي لمسيرات مليونية على عدة جبهات. وكما قيل في إسرائيل نفسها، فإن الثورات العربية دقّت بابها وكرّست حدود القوة لديها. بمعنى، عجز القوة العسكرية عن الانتشار المادي على جبهات واسعة، ناهيك عن البعد الأخلاقي والسياسي والإعلامي لجهة استخدام العنف ضد ملايين من الجماهير المسالمة، والمصرّة على تطبيق حق مكفول لها أصلاً وفق الشرائع والمواثيق الدولية .-لابدّ من الانتباه إلى الجبن والضعف الاسرائيلي الذي تبدّى في مارون الراس والجولان حيث استخدام القوة، مع اليقين بعدم جدواها. ولكنّ الدليل الأبرز كان في الضفة وغزة، حيث خشي جيش الاحتلال من اندلاع اتتفاضة ثالثة جماهيرية وشعبية. وهذا ما يفّسر العدد البسيط من الضحايا الشهداء رغم العدد الكبير من المصابين والجرحى الذي مثّل الوجه الآخر للاستنتاج السابق. بمعنى، التخويف والردع لعدم التفكير في الذهاب إلى انتفاضة ثالثة مختلفة، ترى إسرائيل نفسها أنها باتت مسألة وقت فقط ،بينما كان التعاطي مختلفاً في مارون الراس والجولان، ليس فقط نتيجة المفاجأة وإنما تعبير عن ميل معتاد وسهولة الضغط على الزناد، إضافة إلى الرغبة في الحفاظ على قدرة الردع وتخويف اللاجئين من تكرار المحاولة. بينما كان الاستنتاج معاكساً لدى هؤلاء لجهة الاقتناع بأن لا قوة قادرة على التصدي لقناعتهم الراسخة بتنفيذ حق العودة، وبأن الظروف تبدو مؤاتية أكثر من أي وقت مضى .- 15 أيار الجديد كشف أيضاً العزلة الاسرائيلية الخانقة التي تعانيها الدولة العبرية، خاصة بعد سقوط نظام حسني مبارك. وعملياً، لم يكن هناك من هو مستعد لمخاطبة أو حتى الاستماع إلى وجهة النظر الاسرائيلية باستثناء أمريكا .العمى الاستخباراتي هو إذن تعبير أو ترجمة في الحقيقة للعزلة الاستراتيجية للدولة العبرية .-فى الاستنتاج الأخير، وباختصار، أظهرت الأحداث ضعف إسرائيل وحدود قوتها، وأزالت اللثام عن سلاح جديد كان طول الوقت بأيدينا ولم ننتبه إليه، إلا بعد الثورات العربية، وهذا السلاح سيكون فعالاً لتحقيق حق العودة الذي بات عملياً في متناول اليد. والمسألة هي سنوات قليلة لو أحسنّا القراءة والفهم واستخلاص الاستنتاجات الصحيحة والصائبة .-أكّدت الأحداث أيضاً، ولو بشكل غير مباشر، أهمية المقاومة بمعناها العسكري، وجهوزيتها لردع إسرائيل عن الاعتداء، وربما اختراق الحدود ،خاصة في لبنان وغزة. وهو أمر مهمّ، ولكنه لا يبدو ظاهراً للعيان لدى كثيرين، كما أنه أحد أسباب التردّد، وحتى الضعف الإسرائيلي. في زمن سابق، كانت إسرائيل ستجتاح أو سستتوغّل حتماً لقمع التظاهرات في غزة وربما لبنان أيضاً . في الأخير، وكي يتمّ البناء على 15 أيار الجديد، وكي لا تتحوّل مشهديته إلى عمل موسمي، لابدّ، برأيي، من أمرين مهمّين وأساسيين: إعادة بناء منظمة التحرير كمرجعية وطنية عليا للاجئين والشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، تستفيد من طاقاتهم وتعيد ادماجهم في الصراع، وترسم الاستراتيجيات والخطط لقيادتهم نحو العودة والاستقلال وتقرير المصير. أما الأمر الآخر فهو مواصلة عمل منظمات المجتمع المدني، وناشطي الفيسبوك للتحضير لفعاليات أخرى تعبّر عن الزمن الجديد، و تساهم شعبياً وجماهيرياً في الجهد التراكمي، إلى جانب المنظمة والجامعة العربية والمؤسسات الدولية الأخرى لتحقيق الآمال والطموحات الوطنية في أقرب مدى زمني ممكن. مدير مركز شرق المتوسط للإعلام