لم يكن لفلسطين أن تغيب عن "ربيع الثورة العربية"، وهي في الأساس في موقع القلب منها، وهكذا عبرت عن نفسها في ذكرى إحياء "يوم النكبة" هذا العام، لم يكن ذلك ممكناً في الأعوام السابقة، وكان ممكناً فقط هذا العام، إذ إنه عام الثورة العربية الكبرى، وكان الحراك الشعبي داخل فلسطين المحتلة، وعلى كافة الجبهات والحدود، تعبيراً عن أن "الربيع العربي" احتضن فلسطين وشعبها، وكانت الاستجابة على غير المتوقع والنتائج لم تخيب آمال كافة أحرار فلسطين والعرب والعالم، هؤلاء الذين تطلعوا إلى مثل هذا الحراك منذ أمد بعيد.وعلى الرغم من اختلافات واضحة بين الحراك الثوري العربي، الذي استهدف تغيير وإسقاط أنظمة البطش والاستبداد، والحراك الشعبي الهادف إلى كنس الاحتلال وإحقاق "حق العودة"، إلاً أن ملامح عديدة تشير إلى سمات مشتركة واضحة بين الحالتين، على الأخص أن هذا الحراك الثوري،كان حراكاً شعبياً، تجاوز الأحزاب والفصائل، متخذاً أسلوباً جديداً كل الجدة، مع أن التجربة الفلسطينية تشير إلى أنها استلهمت المقاومة الشعبية من خلال تجربة قريتي بلعين ونعلين وغيرهما من القرى المتاخمة للجدار الحدودي، رغم أن إحياء ذكرى النكبة 63 قد تجاوز هذه التجربة، أيضاً.ولعلّ من الممكن أن نتوقف عند بعض الملاحظات ـ المحطات، لدى تناولنا لهذا الحدث التاريخي بكل المقاييس، وأولى هذه الملاحظات تتعلق بمستوى التنسيق بين مختلف الجبهات على تعددها واختلاف ظروفها، الأمر الذي أربك قوات الاحتلال ومفاجآتها على بعض الجبهات، خاصة الجبهة السورية ـ الفلسطينية، وهنا تأتي الملاحظة الثانية، إذ من المعروف أن هذه الجبهة، كانت "تحظى" في مناسبات معينة باتصال الجمهور السوري مع نظيره في الجولان المحتل، خاصة مع مجدل شمس، وكانت الجماهير السورية تقف عند "تلة الصيحات" وتصيح بمكبرات الصوت، كشكل من أشكال الاتصال مع الأهل.. في ذكرى إحياء النكبة 63، تجاوز الجمهور العربي، من فلسطينيين وسوريين وعرب آخرين، تلة الصيحات هذه، وزحفوا باتجاه الوطن السليب، واكتشفوا ـ وهذه ملاحظة أخرى ـ أن لا أسلاك شائكة مكهربة، ولا ألغام، كان يظن طوال العقود السابقة أن إسرائيل قد وضعتها في سبيل إعاقة أي تدخل على الحدود، وهو الأمر الذي اكتشفه الجمهور الزاحف، ولم تتمكن كل أجهزة المخابرات وفرق الاستطلاع من اكتشافه طوال عقود سبقت، وهكذا تمكنت أعداد كبيرة تعد بالمئات من زيارة مجدل شمس، وبعضهم تمكن من التوغل حتى يافا، والملاحظة المستمدة هنا، أن الحراك الفلسطيني، كان موجهاً عربياً، بمعنى أن الأمر لم يقتصر على فلسطين المحتلة، بل على الجولان المحتل، ما يعطي هذا الحراك طابعاً قومياً غاب عن السياسات العربية طوال السنوات الماضية.يقال إن النظام السوري سمح للمتظاهرين بالتجمهر على الحدود مع الجولان المحتل لصرف الأنظار عن اجتياحه الدموي لعدة مدن ومناطق سورية، غير أننا نعتقد أن الأمر لم يعد بيد سلطات النظام كي تسمح أو ترفض، إلاّ أن إسرائيل بالغت في دور النظام السوري، في هذا الزحف المفاجئ غير المتوقع، وبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية استغربت كيف أن النظام السوري، تجاهل ما فعلته إسرائيل لصالح استفراد الجيش وقوى الأمن السورية بالشعب السوري، وذلك عندما لم تحشد إسرائيل قواتها على الحدود، الأمر الذي كان يفرض على النظام السوري، أن يحشد قواته بالمقابل، مما يمنعه من القيام بحملات البطش ضد الشعب السوري، إسرائيل لم تفعل ذلك، لأن لها مصلحة في استقرار الأوضاع في سورية، ولهذا الهدف، لم تكن هناك حاجة لحشد القوات السورية على الحدود، وتوجه بدلاً من ذلك لأداء مهامه في اطار خطة النظام لسحق الحراك الشعبي السوري ("هآرتس" 17/5/2011).لقد أحدث الزحف الفلسطيني ـ العربي على جبهة الجولان، زلزالاً أمنياً في إسرائيل، فقد تأهبت قواتها لردع الزحف من المناطق التقليدية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، غير أنها فوجئت عند الحدود مع لبنان، لكن المفاجأة الأكبر كانت في هضبة الجولان، حتى أنها لم تتخذ أية احتياطات عسكرية على هذه الجبهة، باعتبارها الأكثر هدوءاً منذ عقود، مقارنة مع باقي الجبهات، وهي التي تعلم أكثر من غيرها أن "نظام الممانعة" هو الذي منع إطلاق طلقة واحدة تكسر الهدوء التام على هذه الجبهة، كافة أشكال المخابرات الإسرائيلية لم تقرأ الواقع الجديد ولم تتمكن العقيدة العسكرية ـ الأمنية الإسرائيلية من وضع هذا المتغير الجوهري في حساباتها، بل ظنت أن انشغال النظام السوري في أوحال الوضع الداخلي، كفيل بانشغال الفلسطينيين في سورية، كما الأشقاء السوريين في مواجهة بطش النظام، دونما إدراك أن الحراك الشعبي الداخلي يتقاطع مباشرة مع تحرير الأرض العربية في فلسطين كما الجولان.سياسياً، من الممكن أن تستثمر إسرائيل هذا الحراك الشعبي القومي، للإشارة إلى أن الفلسطينيين لن يكتفوا بإقامة دولة فلسطينية على حدود الضفة وغزة حسب حدود الرابع من حزيران عام 1967، إذ إن الحراك الشعبي العربي زحف باتجاه شمال فلسطين المحتلة، إشارة إلى أن المطلوب فلسطينياً هو إبادة إسرائيل وتحرير فلسطين التاريخية، كما أن استهداف الجولان في هذا الحراك، يضع إسرائيل في مواجهة كل المنظومة العربية دفعة واحدة، ومن المتوقع أن يشير نتنياهو غداً عندما يلتقي الرئيس أوباما إلى هذه الملاحظات كي يأخذها الرئيس الأميركي بالاعتبار عندما يلقي خطابه حول الشرق الأوسط في اليوم نفسه!والملاحظة الأساسية التي نفترض أن يتم التوقف عندها، إثر تجربة إحياء ذكرى النكبة 63، هي ما سبق وأشرنا إليه لدى تناول الثورات العربية في تونس ومصر على وجه الخصوص، حول مدى قدرة الحراك الشعبي السلمي على إحراز الانتصار على قوى القمع والبطش والاحتلال، وبالمقارنة، فإن الزلزال الذي أحدثه التحرك الشعبي في ذكرى النكبة هذا العام، على إسرائيل، سيكون تأثيره هائلاً ومردوده عالياً على الثورة الفلسطينية، ربما أكثر مما يقاس من أشكال النضال الأخرى، ما يعني أنه يجب التركيز في المرحلة القادمة على هذا الشكل من أشكال النضال السلمي من خلال الحراك الشعبي الجماهيري، ويمكن للأحزاب والفصائل الفلسطينية أن تلعب دوراً مهماً في تنظيم هذا الأسلوب من الحراك الشعبي لطبيعة قدراتها التنظيمية وتجربتها الطويلة، من دون أن تستكين لرد فعل باعتبار أن هذا الأسلوب لا ينسجم مع أسمائها وبرامجها، وعليها أن تستوعب المتغيرات التي تفرض تغييراً في الأساليب والأشكال وأن لا تظل حبيسة لمنطلقاتها التقليدية في زمن جديد!www.hanihabib.net – hanihabib273@hotmail.com