عجبت أيما عجب وأنا أقرأ (شيئاً!) تحت عنوان: "على حساب من يا أساتذة الجامعات؟" (أبدعه!) صحافي يمتشق عموداً صحافياً يومياً في صحيفتنا الغراء "فلسطين" عنوانه: "مجرد رأي"، نشر في عدد يوم الخميس 12/5/2011. ما أثار عجبي هو ما بذله هذا (المبدع!) من محاولات التحبب إلى "أساتذة الجامعات"، قائلاً تارة: "ليعذرني إخوتي وأحبتي أساتذة الجامعات"، وتارة: "أيها الإخوة الكرام الأحباب"، وأخرى: "أيها العلماء، أيها العارفون، أيها المثقفون"!!!كم جميل من أي صحافي يفهم مهنته أن ينتصر إلى المظلوم وينصر الظالم فيرده عن ظلمه وغيه، لكن الأجمل أن يبلغ الصحافي من الدقة والتوازن والموضوعية مبلغاً يؤكد من خلاله على سلامة نظرته الكلية إلى مجتمعه، دون انتقاص لحق فئة أو مس أو تشهير بها. فصاحبنا (الصحافي المبدع!) أراد – هكذا ودون أي تفكير أو محاولة للفهم – أن ينتصر لفئة على حساب أخرى دون أن يكون مدلول انتصاره لهذه الفئة على تلك تكاملاً أو تكافلاً حقيقياً واضحاً، وإن أتى على ذلك غمزاً ولمزاً، وهو يخاطب أساتذة الجامعات قائلاً: "كنت أتمنى أن تشكلوا جمعة من أساتذة الجامعات يكون هدفها هو أن يتبنى كل أستاذ جامعي أسرة من الأسر المحتاجة وما أكثرها، ولا أقول هنا أن تتقاسموا معها رواتبكم…"!!!من بين ما يقول هذا (الصحافي المبدع!): "…بات الأستاذ الجامعي يعاني من تآكل في راتبه الشهري وفق وجهة نظره وما عاد الراتب يكفي الديكور المفترض أن يكون عليه المنزل، ولم يعد يكفي هذا الراتب لشراء سيارة (بنت سنتها) أو شراء جيب حديث من تلك التي تأتي عبر الأنفاق والتي لا ندري هل هي مشتراة أم مسروقة، هذا ليس مهماً، ولكن الأهم أن يشار إلى الجيب بنظرات الإعجاب". ألا يرى هذا (الصحافي المبدع!) أنه الآن يتجاوز بقوله هذا حدين: حد الأخلاق وحد المهنة. أما حد الأخلاق فإنه يتجاوزه على نحو واضح وفاضح، فهو يصف أساتذة الجامعات بأنهم "العلماء" و"العارفون" و"المثقفون" في ذات الوقت الذي لا يتفق معهم في أن رواتبهم تتآكل بالفعل تآكلاً كبيراً وخطيراً، فيما يفترض من عندياته أن رواتبهم التي تتآكل وفق وجهة نظرهم، هم، لا هو، ما عادت تكفي للديكور المفترض أن تكون عليه منازلهم، وأنها ما عادت تكفي لشراء سيارة بنت سنتها!!! إنني أشفق على هذا (الصحافي المبدع!) الذي بلغ من التجرؤ على الأستاذ الجامعي حداً اختزله في سعيه لاستجلاب نظرات الإعجاب لجيب حديث آتٍ من الأنفاق سرقةً أو شراءً، على حد قوله!!! أما حد المهنة الذي تجاوزه صاحبنا (الصحافي المبدع!) على نحو مستشنع ومستبشع، فهو أنه سمح لنفسه أن يهجم على أساتذة الجامعات منتقداً ومتهماً، دون أن يكلف نفسه عناء سؤالهم والاستفسار منهم، بغية الإطلاع على مواقفهم ووجهات نظرهم، لاسيما وإنني أجزم – بصفتي واحداً من بين الآلاف من أساتذة الجامعات في طول فلسطين وعرضها – أن صاحبنا (الصحافي المبدع!) قد كتب في موضوع لا يعرفه ولا يعرف عنه، فقفز في الظلام قفزة لن تكون – إذا تكررت مرة أخرى –مأمونة عواقبها.إن الأعجب من كل عجيب أن ينكر صاحبنا (الصحافي المبدع!) على أساتذة الجامعات حقهم في الإضراب، وهو الذي ينبغي له أن يعرف قبل غيره أن الحق في الإضراب النقابي حق مقدس ومكفول، لاسيما إذا كان هذا الإضراب المفتوح قد سبقته – منذ أكثر من شهر – سلسلة من الإضرابات التحذيرية المشفوعة بأسباب ومطالب ومسوغات لم يعطها المسؤولون الرفيعون إلا أذناً من طين وأخرى من عجين ليس ينفع معها إلا التدخل الجراحي المؤلم، وهو ما عبر عنه الشاعر العربي بقوله: لكل شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبردأما صاحبنا (الصحافي المبدع!)، فليته يعلم أن أساتذة الجامعات الفلسطينية لا يخوضون إضراباً من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية، كما يقول، ولكنهم يخوضون إضراباً مفتوحاً، وسيظل مفتوحاً، ما لم يستجب المسؤولون الجالسون في أبراجهم العاجية لحقهم في التعويض عن تدهور سعر صرف الدينار الأردني الذي فقد نسبة تتراوح بين 22 و 30% من قيمته، بالإضافة إلى نسبة غلاء المعيشة التي لم يطالب أساتذة الجامعات بالتعويض عنها، بعشد.وبعد، فكم من أساتذة الجامعات لا يملكون جيبات حديثة أو قديمة، مشتراة أو مسروقة؟! وكم منهم يقفون على قارعة الطريق انتظاراً لسيارة عمومية تقلهم إلى جامعاتهم؟! وكم منهم لا يملكون بيتاً أو شقة صغيرة؟! وكم أنفقوا من مال وجهد ووقت وهم يصلون أيامهم ولياليهم بأيام وليال أطول وهم يتعلمون ويرتحلون ويبحثون (ويستدينون!)؟! وكم قطع ولاة أمرهم – سواء كانوا آباء أو أمهات أو إخوة أو أقارب – عن أنفسهم أسس الحياة وأطايبها كي يخلقوا منهم لمجتمعهم ركائز ومعلمين وقادة وزعماء؟!أما آخر الكلام، فإن أساتذة الجامعات – الذين حاضر فيهم، برغمهم، صاحبنا (الصحافي المبدع!) قائلاً لهم: "قفوا قليلاً وفكروا كثيراً ولا تنجروا وراء أحلام وحاجات كمالية" – ينصحون ناصحهم قائلين له: "وأنت تخاطب أساتذة الجامعات قف كثيراً، وفكر أكثر، ولا تنجر وراء عاطفة تظن – مخطئاً – أنك ستحقق من خلالها كسباً، ذلك أن الكسب إن أردت تحقيقه، فلتعلم أن خير الكسب هو أن تكون أنت للمسلوبة حقوقهم كسباً ضد سالبيها. أما إن أردت التميز، فلتجرِ من الآن ما شاء لك من الحوارات الموضوعية الجادة مع جميع أطراف المشكلة: مجلس التعليم العالي – مؤتمر رؤساء الجامعات – مجلس اتحاد نقابات أساتذة وموظفي الجامعات الفلسطينية – نقابات العاملين في جامعات فلسطين – أساتذة الجامعات. / كاتب وأكاديمي فلسطيني جامعة الأزهر بغزة – فلسطين