غزة سما لم تستسلم لقدر الإعاقة التي ألم بها اثر مرض مجهول عجز الأطباء عن تشخيصه حتى في كبرى المشافي العالمية، أفقدها جزءً هاماً من جسدها ومعول حركتها وديناميتها، "القدمين" ، وبعض أصابع اليدين، كل ذلك حدث في وقت قصي وهي في شهرها السادس، أصبيت بحالة أنفلونزا ولم تدري بأن هذا الفيرس سكن داخل أنسجة جسدها دون هوادة و سابق إنذار، طرقت جميع أبواب الأطباء بجميع التخصصات, ولكن الإجابة كانت استحالة تشخيص لهذا المرض، سافرت العينات إلى الخارج والنتيجة واحدة، قرر الأطباء نقلها إلى إحدى المشافي الإسرائيلية، ليتم هناك علاجها ولكن الإجماع كان قرار بتر الساقين حتى لا يتمدد هذا الفيرس الغريب ويقضي على كامل جسدها، استأصلت قدماها، وبعضا من أصابع يديها، وأجهض جنينها التي لم تعرف إلى أين انتهى به المطاف، وأين وري الثرى وهل تم تسميته ولكنها احتسبته عند الله تعالي. "أن تولد معاقاً فهو قدر محتوم وترضي بذلك، ولكن أن تكون سليما في فترات طويلة من عمرك وتصبح بين عشية وضحاها بلا نصفك الثاني فهذا شيء مؤلم للغاية ولكن تبقى هناك قوة أقوى وأعتى من قسوة الجسد الفاني، تبقى الروح التي تحرك بوصلة الحياة، وتواجه كل التحديات المجتمعية والنظرة المقيتة التي يرمقها المجتمع تجاه المعاقين، ومشاعر الشفقة والاحسان". هذه الكلمات المعبرة بدأت بها حاملة الإرادة والتحدي الأم الفلسطينية إيمان نصرالله في العقد الرابع من عمرها، وتعيل أسرة مكونة من ثمانية أفراد أصغرهم ما زال رضيعا يأبي أن يفارق أحضانها، ولدته وهي معاقة وربته كذلك، ومازالت تقوم بكل المهام البيتية رافضة أن تكون عالة على أسرتها ومجتمعها، تطهو الطعام بمساعدة كريسها المتحرك، وتحاول أن تستعيض بقوة بعض أجهزة جسمها الأخرى السليمة كي تتمكن من انجاز الأكلات الصعبة والتراثية مثل المحاشي والكشك والسماقية والمفتول وخلافه عدا عن أطباق الحلويات. تقول بنبرة إرادة لم أعهدأن سمعتها بهذه القوة من قبل"انتفضت على إعاقتي بعد أن استفقت من صدمة بتر نصف جسدي، ولكنني أقسمت في ذاتي أن أواجه كل التحديات بمختلف أنواعها ومصادرها، ولم استسلم لليأس وأبقى أسيرة الكرسي المتحرك، وانتظار كلمات المواساة والشفقة" ولكنني آثرت الصمود والتحدي على الاستسلام كي أواصل رسالتي تجاه أسرتي ومجتمعي، فإتخذت من الإصرار والتحدي طريقا اهتدي بهديه، لم أُشعر زوجي بأنني أصبحت عالةً ومحط نظره شفقة وإحسان، مارست حياتي الطبيعية أفيق كل يوم من الفجر أقوم على رعاية أبنائي وتجهيزهم لمدارسهم بل أقوم بإعداد لوازم الطعام من الليل، وحينما يحلون على البيت بعد مدارسهم يجدون كل مطالبهم مجابة، على أكمل وجه وكذلك زوجي الذي لم أحرمه من أي من الأكلات التي يعشقها، وتحاملت على نفسي وسطرت لنفسي الطريق، أسير في الأسواق واقضي حاجتي، وأشارك في الفعاليات الوطنية والاجتماعية. حباها الله ملكة نظم الشعر منذ نعومة أظافرها ولكن زادت موهبتها وإبداعاتها بعد الإعاقة، فكتبت حول العديد من القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية وحالة الحصار، واحتفظت به لذاتها لمذاكراتها، وكانت تجود في بعض المناسبات بقدر يسير منه يلقى إعجاب الحضور. تضيف نصرالله، لقد وصلت إحدى قصائدي إلى العقيد معمر القذافي حين الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وعلى إثرها خاطبوني وطلبوا مني زيارة ليبيا وبالفعل زرتها وأكرمت من قبلهم، وقدموا لي مساعدة لعمل أطراف مساعدة ولكن هذه الأطراف غير متوفرة إلا في ألمانيا، وحينما عدت إلي القطاع كنت على مشارف الولادة وكان علىّ أن أُؤثر على نفسي وأزوج إبني، كي أجد زوجته تقف بجانبي حين الولادة وبالفعل زوجت إبني الذي أانهي دراسته الجامعية " ببنت حلال " وفق وصفها وقامت بمساندي بعد الولادة القيصرية وراعتني في محنتني. إيمان كما تحب أن تنادى تقول لقد أصبحت أكثر قوة من السابق وعزيمة، بعد أن نجحت في تذليل العقبات المجتمعية والنظرة الدونية تجاه المرأة المعاقة، وقدت ثورة البيوت أولا قبل ثورة الشعوب التي يجب أن تقودها النساء لتحسن من أوضاعها وتنتفض على الظلم والقهر المجتمعي. أصبحت الآن أكثر قدرة على اتخاذ القرار بل أن سيدته في البيت، والعقل المدبر الآن استطيع القول" أن حالي أفضل من السابق بعد أن انتفضت على الاضطهاد والظلم التي كنت أتعرض له "أنا الآن أقوى من أي وقت مضي ولن تكون إعاقتي حجر عثرة في طريق النجاح والتحدي الذي اختطته لحياتي. وتناشد نصرالله الجهات المسؤولة بمحاولة دعمها بتركيب أطراف صناعية حتى تعينها بشكل اكبر على مواجهة قسوة الحياة، خاصة وأنها تعيش في الدور الرابع ويحد من تنقلها بشكل مريح، كما تأمل أن يتم دعمها بجهاز حاسوب يمكنها من نظم الشعر بطريقة أيسر، سيما وأن ظروفها المادية كظروف معظم الشعب الفلسطيني القابع تحت الحصار.