ثمة شيء غريب في حقيقة أن كثيرين يؤبنون حزب العمل بزعم أنه بلغ نهاية طريقه، وبخاصة عندما أصبح نهجه السياسي، ونهجه الاقتصادي – السياسي (الخارجي) بقدر كبير أمرا متفقا عليه في السياسة الاسرائيلية. إن جو الكآبة العام الذي يميز الخطاب المغطى اعلاميا في اسرائيل لا يساعد، اذا لم نشأ المبالغة، في بحث جدي متزن لهذه المفارقة. وكأنه لا يوجد قدر كاف من "النوائب" في اسرائيل؛ وكأنه لا يكفي أن "الفاشية" أصبحت تقف على الأبواب؛ وكأن التهديد الايراني وتهديد حزب الله لا يزداد زخما؛ كأن كل هذا غير كاف حتى جاء المناخ الصيفي فختم مستقبل الدولة بختمه بحيث قيل "اسرائيل تجف". من الجيد انه توجد هنا وهناك عدة ايام رئيسة تُثار فيها ولا سيما في المدارس في برنامج العمل موضوعات يفترض أن تكون قاعدة وعي المجتمع في اسرائيل. والتاسع والعشرون من تشرين الثاني الذي حل أول أمس أحدها. ربما يشعر شيوخ الطائفة بأن التاسع والعشرين من تشرين الثاني يشحب قياسا بتواريخ اخرى. واعتاد آخرون الاستهزاء بقدر ما من الحق بالمزاوجة الغريبة بين التاسع والعشرين العبري وتشرين الثاني الاجنبي. وقد لا يعلم الشبان أصلا ما هو الامر المهم في هذا اليوم. لكن يصعب في واقع الامر أن نفكر في تاريخ مضمونه بسيط وواضح مليء بالمعاني الايجابية الى هذا الحد. يكاد كل شيء يوجد فيه: جذر الصهيونية السياسية الكلاسيكية؛ كذلك الوعد الذي كان في منظمة الامم المتحدة، وكذلك الجذر البسيط لتعريف اسرائيل بأنها دولة يهودية ديمقراطية. "الصهيونية السياسية الكلاسيكية" تعني الوقوف على المصلحة الوطنية مع اجراء سياسة مصالحة. إن "الوعد في الامم المتحدة" هو ذاك الذي كان قبل أن تقع المنظمة فريسة سياسة هويات الكذب والافتراء ما بعد الاستعماري، الذي أفضى الى تعيين باكستاني رئيسا للجنة حقوق الانسان. "الدولة اليهودية – الديمقراطية" هي ما كُتب بالضبط آنذاك في تقرير لجنة التحقيق الخاصة التابعة للامم المتحدة في شأن فلسطين: يوجد شعبان في هذه الارض، الاول عربي والثاني يهودي، ولما كان لكل واحد مصلحة تخصه، فانه ينبغي اقامة دولتين ديمقراطيتين – واحدة ذات أكثرية عربية وأقلية يهودية، والثانية ذات أكثرية يهودية وأقلية عربية. وواضح أن القصد من "يهودية" (كان وما يزال) التعريف القومي – العلماني للشعب اليهودي لا الديني – الشرعي. لا يقل أهمية عما يوجد في القرار 181 الصادر عن الامم المتحدة، ما لا يوجد فيه. فليس فيه أي ذكر لعلاقة بين حق اسرائيل في الوجود بصفة دولة يهودية – ديمقراطية وبين المحرقة. وسنبحث عبثا في القرار عما يبدو لـ 99 في المائة من الاسرائيليين و99 في المائة من أعدائهم انه مفهوم من تلقاء نفسه وهو أن ميلاد اسرائيل تعويض عن المحرقة. لا في القرار ولا في صفحات تقرير لجنة التحقيق التي عرضت خطة التقسيم والتي بلغت 157 صفحة. يُذكر النازيون في التقرير بصفتهم واحدا من العوامل التي حفزت اليهود الى الهجرة الى ارض اسرائيل في سنوات الثلاثين المبكرة – وهي الهجرة التي قاومها العرب بالعنف وأفضت في نهاية الامر الى انشاء لجنة التحقيق واقتراح التقسيم. وفي النهاية، التاسع والعشرون من تشرين الثاني فرصة ممتازة لنذكر ما يعوزنا في الواقع ألا وهو دولة عربية – ديمقراطية في فلسطين. تكون تلبية لطموحات الفلسطينيين القومية – وهي الطموحات التي صيغت منذ زمن ليس بالبعيد بمصطلحات إما كل شيء وإما لا شيء، وهي صياغة كانت نتيجتها التاريخية لا شيء. إن الطريقة الحذرة البنّاءة التي قرر أبو مازن أن يقود شعبه بها تستحق المدح كله. فليس عرضا انها تجد ردا وتأييدا، وإن لم يكن معلنا دائما، من حكومة اسرائيل الحالية. فقد أعلن رئيس الحكومة التزامه بالدولتين، ووزير الدفاع يُجري سياسة نتيجتها هدوء لم يسبق له مثيل في الضفة الغربية. ومن غير أن ننتبه أخذ يتحقق ايضا المبدأ المنسي للقرار 181 وهو التعاون الاقتصادي بين الدولتين الديمقراطيتين. احداهما أصبحت موجودة فهل الثانية في الطريق؟.