كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن سياسة بدائل فلسطينية متتالية في مواجهة تعنت الحكومة الإسرائيلة، ومعنى متتالية هنا هو أنه في حال فشل البديل الأول يُصار لاتخاذ البديل الذي يليه وهكذا، وقد أعلن الرئيس محمود عباس مؤخراً عن هذه السياسة الجديدة، وتولى من قبله مسؤولون فلسطينيون تعداد وتفسير تلك البدائل في أكثر من مناسبة. باستثناء الخيار العسكري، أي المقاومة المسلحة، الذي أعلن الرئيس عباس أكثر من مرة أنه ليس مطروحاً في ظل رئاسته، يمكن الاجتهاد في اختصار البدائل التي يدور الحديث عنها كالتالي: استئناف المفاوضات المباشرة بشرط إقدام حكومة نتنياهو على إعادة تجميد الاستيطان، وإلا التوجه للإدارة الأمريكية للاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967 تحقيقاً للرؤية الأمريكية "دولتين لشعبين"، وفي حال رفضت الإدارة الأمريكية، دعوة مجلس الأمن للاعتراف بالدولة، وفي حال فشل ذلك، التوجه للجميعة العامة للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة، وأخيراً ربما نصل إلى قناعة بعدم إمكانية تجسيد دولة فلسطين من خلال النظام الدولي الحالي ومن ثم ربما التوجه إلى حل السلطة الوطنية الفلسطينية والمطالبة بدولة واحدة ثنائية القومية. الحقيقة أنه في غاية الأهمية أن يكون لدينا بدائل وخيارات مختلفة في مفاوضاتنا مع الحكومة الإسرائيلية، وامتلاك مثل هذه البدائل يعتبر أساسي لتعزيز موقفنا التفاوضي، إذ يفترض في علم المفاوضات أن يكون لكل طرف مفاوض ما يسمى اختصاراً (BATNA) أي أفضل بديل لاتفاق يتم التفاوض عليه. إن وجود بدائل مدروسة يعني وجود خطة، وهذا يُعتبر تطوراً إيجابياً لا يستهان به، ووجود خطة يعني أن لدينا مبادرة بعد زمن طويل من بقائنا في حالة ردات الفعل، وبهذه المناسبة أتذكر جملة كررها الشهيد الرئيس ياسر عرفات كثيراً بعد فشل مفاوضات كامب ديفد عام 2000: "كل الخيارات مفتوحة". مع ذلك فإنه يجب دائماً التفريق بين التكتيك والإستراتيجات، فلا يجوز الحديث عن الاستراتيجيات كبالونات اختبار أو التلويح بها كخيار غير جدي، أو الحديث عنها كخطاب سياسي لا يمتلك خطة عمل لترجمته عملياً على أرض الواقع، لأن ذلك يُفقد الخيار أو البديل مصداقيته داخلياً وخارجياً. دعونا نجري ما يمكن أن نسميه مناورة بدائلية، أي إجراء محاكاة تجريبية لهذه البدائل، على أساس أسوء السيناريوهات، وهو وصولنا فعلاً إلى البديل الأخير: لنفترض أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة لم تجمّد الإستيطان، أو قد تجمده ثم تستأنفه في المستقبل القريب، وهذا يعني فشل البديل الأول، وأننا توجهنا بعد ذلك إلى الولايات المتحدة بطلب الاعتراف بدولة فلسطين، فإن قبول الإدارة الأمريكية مستبعد إذ أن رؤيتها التاريخية لحل الصراع هي من خلال المفاوضات الثنائية، بينما الرفض أقرب للواقع حيث أن لإسرائيل دالة أقوى على الإدارة الأمريكية، وهذا نتاج عمل يهودي إستراتيجي تاريخي من خلال اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية. إن رفض الإدارة الأمريكية الاعتراف بدولة فلسطين، يعني عملياً استنفاذ البديلين الثاني والثالث، حيث يمكن اعتباره رفضاً مبكراً من قبل مجلس الأمن، على الأقل بالفيتو الأمريكي. بالطبع لا ضير من اللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإذا تم ذلك فإنه من المتوقع أن نحصل، كالعادة، على أكثرية الأصوات الموافقة، ولكن السؤال هنا، ما جدوى ذلك عملياً؟ فرغم أن 93 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تعترف بفلسطين كدولة مستقلة، إلا أن ذلك لم يكفِ لتجسيد استقلال فلسطين أو لتبديل وضعها من عضو مراقب إلى دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، لأن ذلك فقط من اختصاص مجلس الأمن، أي من اختصاص الفيتو الأمريكي. إن قرارات الجمعية العامة العديدة المؤيدة للحقوق الفلسطينية رغم أنها تعتبر دليل على عدالة قضيتنا، إنما تأتي في نظام دولي مزدوج المعايير، يعني أن مثل هذه القرارات غير الملزمة لا تعدو كونها تعاطفاً ودعماً معنوياً لحقوقنا السياسية المشروعة. حسب فهمي للبدائل الفلسطينية فإنه إذا خلصنا في النهاية إلى عدم إمكانية تحقيق الاعتراف بدولة فلسطين أو تجسيدها عملياً من خلال مؤسسات النظام العالمي، فسنذهب إلى البديل الآخر، وربما ليس الأخير، وهو تبني خيار دولة ديمقراطية واحدة ثنائية القومية. هذا البديل يصعب محاكاته أو تجريبه دون تحقق شرط أساسي وهو إنجاز مصالحة حقيقية بين فتح وحماس، ومن ثم التوجه لعقد مؤتمر وطني كبير، تتخلله ورشات عمل وحلقات بحث تخصصية، ويُدعى لمؤتمر، إلى جانب ممثلو الفصائل والشخصيات الوطنية المستقلة، أكاديميون وأساتذة جامعات واستشاريون متخصصون بالعلاقات الدولية وأنظمة الفصل العنصري والقانون الدولي، وليخرج هذا المؤتمر بنتيجة تتبناها القيادة الفلسطينية كرؤيا استراتيجية. إن تأثير إسرائيل على أمريكا وبدرجة أقل تأثيرها على أوروبا يجعلها تمتلك مفاتيح إفشال بعض بدائلنا، ولكن الأخطر هو تمكنها من إيجاد بديل داخلي عن منظمة التحرير، ويبدو أن ذلك لن يكون صعباً عليها، خاصةً في ظل عدم إنجاز مصالحة فلسطينية حقيقية، فالبديل السياسي مستعد وموجود دائماً ليحل مكان المنظمة وهو حركة حماس. تتبع حركة حماس سياسة الغموض البنّاء في برنامجها السياسي، فرغم أنها تدعي أنه برنامج مقاومة في محاولة لدغدغة الميول العاطفية للأمة العربية والإسلاميةً، إلا أنها لا تنفك تُـقدم أورق اعتمادها للولايات المتحدة والمجتمع الدولي وإسرائيل على أنها البديل السياسي لفتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، البديل الذي يملك خاصيتين، الأولى: هي إمكانية القبول بالحل المؤقت وفي أحسن الأحوال امتلاك نفس الرؤية السياسية لحركة فتح وهي دولة فلسطينية على حدود 1967، كما أكد رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في أكثر من مناسبة، والثانية: هي أن حركة حماس تتميز عن فتح، من وجهة نظر إسرائيل وحماس نفسها، بأنها البديل القادر على الوفاء بالتزاماته وخاصةً منها التهدئة، وهذا ما أكده مسؤولون إسرائيليون في مناسبات عديدة، وأيضاً أكده دائماً قادة حماس في غزة قولاً وفعلاً بأنهم الأكثر ضبطاً للمقاومة الفلسطينية، وقد تخصص القيادي في حماس محمود الزهار في وصف مطلقي الصواريخ مرةً بأنهم خونة، ومرةً أخرى بأنهم متمردين، مبرراً اعتقالهم في حديثه الأخير لصحيفة الحياة اللندنية (30 أكتوبر). إضافة إلى ذلك، يتعزز احتمال أن تكون حماس بديل منظمة التحرير من خلال لقاءات سرية بين إسرائيل وحماس، في الداخل والخارج، تكشف بعضها وسائل الإعلام، وآخرها على ذمة صحيفة الجريدة الكويتية (29 أكتوبر)، حيث نقلت عن مصادر مطلعة "أن لقاء جرى أخيراً بين شخصية إسرائيلية رسمية وقيادي من حماس في دولة خليجية، وقد جرى ذلك في إطارالإعداد لإمكان التوصل إلى اعتراف متبادل بين حماس وإسرائيل، ونقل المصدر عن أوساط إسرائيلية مطلعة قولها إن حماس قادرة على الإيفاء بتعهداتها إذا وقَّعت أي اتفاق، وأشار المصدر إلى أن الحكومة الإسرائيلية تنظر بقلق إلى ضعف السلطة الفلسطينية ومحاولة تنصلها من الاتفاقيات المبرمة وإمكان انهيار السلطة، مضيفاً: وبما أن المنطقة لا تحتمل الفراغ، فحماس هي البديل للسلطة". المصالحة الفلسطينية الحقيقية هي الخطوة الأساسية الأولى لنجاح العمل السياسي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، أما فاعلية ذلك فهي ليس ما يكمن بين شفاه الساسة بل ما في جعبتهم من خيارات تقنع الصديق وتردع العدو، وهي ليس ما يُنطق به بل ما يُرتَـكز عليه، هي ماذا لديك لتراهن عليه، وأي سيف تحمل في يديك، وماهية وضعك الداخلي عربياً وفلسطينياً، وإلا فإنه يصح الحديث عن ذلك من باب الصعود إلى أعلى الشجرة وثم البحث عن سلم للنزول من عليها.