خبر : التعلوم .. إبراهيم ابوالنجا

السبت 23 أكتوبر 2010 12:10 ص / بتوقيت القدس +2GMT
التعلوم .. إبراهيم ابوالنجا



اعتاد قارئو مقالاتي الكرام على العناوين التي يكتنفها جانب الغموض وبعضهم يقف مطولاً حائراً في معنى العنوان والبعض الآخر يمضي عليه يجد تفسيراً في متن المقال ، ولكن سرعان ما تتبدد الحيرة عندما يأتون على قراءتها لأنني لست من عشاق الفوازير أو الراغبين في فك الطلاسم لأنه عمل لا لطائل من ورائه ، ولا يدلل على الاهتمام بأصحاب الفكر ولا يهدف إلى الوصول لهدف . فالعنوان هنا كلمة سمعتها من الأخ العزيز الأستاذ الدكتور النائب زياد أبو عمرو : حيث شارك في ثمانينات القرن الماضي في مؤتمر تربوي في دولة عربية ، وتحت رعاية حاكم أو رئيس هذه الدولة ، وكعادة المؤتمرات لها برنامج وجدول أعمال ، ورئاسة لكل جلسة طيلة أيام المؤتمر ، ولذا هناك خصوصية حيث دعي له رجال الفكر والعلم من أساتذة الجامعات وكبار الشخصيات عرباً وأجانب ، إضافة إلى المنظمات الإقليمية والدولية ذات الشأن . جرت أعمال المؤتمر في جو من الاهتمام والحرص على تقديم آخر التجارب الناجحة حول عملية التعليم من قبل ممثلي الدول والمنظمات من خلال الأوراق التي تقدم بها المتداخلون ، والحوارات من قبل الحضور ، والاستخلاصات من قبل المهتمين الحريصين على الاستفادة ، وكعادة المؤتمرات فالكل حريص أن يقدم تجربة بلاده بإطلاقه عبارة النوعية والمتكاملة ، كما يعرض سياسة بلاده ذات الخطط السخية المتمثلة في الموازنة المخصصة لهذه المنظومة من تربية وتعليم وتعلم ، وبشيء من المباهاة ، وكل له سببه وهدفه ورسالته التي يريد إيصالها للآخرين . في اليوم الأخير للمؤتمر جاء حاكم تلك الدولة ليلتقي ويودع ويشكر المشاركين قبل مغادرتهم ، وكانت له كلمة : فقد ارتجل حديثاً جعل الجميع حائرين . بدأ يتحدث عن التعليم وأهميته ودوره وأثره في الإنسان والمجتمع ، وانعكاسه على الدولة وليس في ذلك غرابة ، ولكنه ألجم الحاضرين جميعاً رغم مؤهلاتهم العلمية العالية ، وفكرهم الذي يتغذى منه وعليه الملايين . قال : هناك تعليم وهناك تعلوم . بدأوا ينظرون إلى بعضهم عند سماعهم كلمة تعلوم ، إذ لا غرابة في كلمة تعليم ، وعلا الهمس ، وبدأ الغمز واللمز وبلغات المشاركين حيث أن الكلمة مترجمة بعدة لغات تتناسب ولغاتهم ، ولكن المترجمين لم يجدوا لها ترجمة بأي لغة . أنهى كلمته شاكراً لهم مشاركتهم ، واعتذر عما إذا كان هناك قصور في الضيافة والوفادة . صفق له الحاضرون وقوفاً ولكن بقيت كلمة التعلوم غير مفهومة ، فلم ينجل الغموض ، مما دعاهم يتساءلون فيما بينهم قائلين : كيف يفض مؤتمر كهذا ، وكلمة راعي المؤتمر اعتبرتها هيئة الرئاسة وثيقة من وثائق المؤتمر ، وفيها كلام مبهم صعب على لجنة الصياغة فهمه ، ويؤخذ عليها تدوينه . لم يجد الحاضرون مناصاً من التوجه إلى وزير تعليم ذاك البلد المضيف ، وهو رئيس المؤتمر ، فهو أولى وأحق بأن يسأل عن لغة حاكمه أو رئيسه ، ولكن الأخير لم يكن بأعلم منهم ، فتملكته الحيرة ، ولكنه تجرأ قائلاً : سأعود لكم بتفسير ما عجزنا جميعاً عن فهمه . لحق برئيسه وعلى استحياء أو خوف ، ولكن الخيارات أمامه معدومة ، وبلطف شديد وانحناءة أمام رئيسه طلب منه السماح بالحديث . فأذن له . فسأله عن كلمة " التعلوم " . رد عليه رئيسه قائلاً : هي كلمة موجهة لنا ، أصحاب البلاد حكاماً ومحكومين ، فقد تابعت جلسات المؤتمر من غرفة أراكم وأسمعكم وانتم لا ترونني . كم انتابني من حزن على حالة التربية والتعليم في بلادنا . الموازنة ضخمة ، والمدارس والمعاهد والجامعات تكاد تكون في كل ألف متر ، والتلاميذ والطلبة لا تطأ أقدامهم الأرض فلكل تلميذ أو طالب سيارة وسائق ، ومدرس أو أستاذ إضافي لكل مادة ، ورغم ذلك فليست لدينا تربية ولا تعليم بل لدينا تعلوم . انتهى الحديث بين الحاكم ووزيره . خرج الوزير ولم يعد للمؤتمرين ز وكل فهم الكلمة بمفهومه الخاص وغادروا . وللربط بين البداية والنهاية وللوصول إلى الهدف ، فقد فاجأني شاب يمتهن التصوير كوسيلة يعتاش من ورائها من خلال التقاطه لصور للبعض أو للكل في المناسبات كافة ثم يقدمها لهم فيتلقى مقابل ذلك بعض المال . المفاجأة كانت مجموعة من الصور التقطت لي في احتفالات التخرج في الجامعات الفلسطينية كافة في قطاع غزة في نهاية كل عام دراسي ، حيث كانت لي كلمات في هذه المناسبات ، جلست اقلبها صورة صورة وأتذكر الآلاف من الخريجين في كل احتفال حتى أكاد أجزم أنه لا يخلو بيت من اثنين من الخريجين كحد أدنى . ثم تذكرت أننا في قطاع غزة نكاد نأتي في القريب العاجل من السنوات إلى تشييع أخر أمي أو أمية ، وهذا يعتبر مفخرة للدول والشعوب . تذكرت أثر التربية والتعليم في حياة الشعوب التي تمحى فيها الأمية . والانتقال بها من عصر إلى عصر وليس من مرحلة إلى مرحلة . وتذكرت أوضاعنا في قطاع غزة : إن لدينا مؤسسات دولة عصرية بدءًا بالمدارس والمعاهد والجامعات ، ومروراً بالمعامل والمصانع ، وانتهاءً بالمطار الذي أعفانا من النوم في مطارات العالم ، وترحيلنا بطريقة شحن البهائم . دحر الاحتلال ، ورغم حقده المتمثل في الإضرار بهذه المؤسسات أو ببعضها وهذا ليس مستغربا، إلا أننا كنا أكثر حقداً على منجزاتنا ومشاريعنا ومؤسساتنا . صحيح أننا منتظمون في الدراسة في المراحل كافة ، والاحتفالات بالتخرج قائمة في نهاية كل عام ، وأعداد الخريجين في تزايد ، ولكننا في ذات الوقت قمنا بما لا يتناسب وما نتلقاه في هذه المؤسسات التعليمية من تربية وتعليم وتعلم . دمرنا معاملنا ومصانعنا ، ونقلناها على بيوتنا وقمنا ببيعها بثمن بخس بمعرفة أو بدون معرفة لأثمانها الباهظة ، والأدهى والأمر أننا خربنا مطارنا وبعناه قطعاً سواءً الزجاج أو الأثاث أو الأجهزة أو الحجارة . لم نقف عند ذلك الحد فقد حرثنا المدرج الذي تحط وتطير منه وعليه طائراتنا لنستخرج الحصى لنبيعها وهي " الحصمة " وكنا نعول أن يكون المطار والمصانع والمعامل من مشمولات عملية إعادة الإعمار بعد العدوان الصهيوني على شعبنا في حربه الأخيرة ، إلا أن الخبراء رأوا بأنفسهم ما اقترفته أيدينا بمؤسساتنا ، ولم تعد ضمن ما سيطاله إعادة الإعمار . فمن أين إذن لنا مصانع ، ومعامل ، وطرقات ، ومطار ؟  هل نستطيع الجهر بالقول : إن لدينا تربية وتعليماً وتعلما ؟ نقول لا بل لدينا تعلوم كما قال راعي مؤتمر التربية والتعليم ، الحاكم العربي قبل ثلاثين عاماً . أليس هذا محزناً . معذرة على الألم الذي سيقتحم النفوس ، وعلى الأمل الضائع الذي قد لا يتحقق .  أرجو أن تكون وصلت الرسالة وفهم معنى " التعلوم " .