اعتاد قارئو مقالاتي الكرام على العناوين التي يكتنفها جانب الغموض وبعضهم يقف مطولاً حائراً في معنى العنوان والبعض الآخر يمضي عليه يجد تفسيراً في متن المقال ، ولكن سرعان ما تتبدد الحيرة عندما يأتون على قراءتها لأنني لست من عشاق الفوازير أو الراغبين في فك الطلاسم لأنه عمل لا لطائل من ورائه ، ولا يدلل على الاهتمام بأصحاب الفكر ولا يهدف إلى الوصول لهدف . فالعنوان هنا كلمة سمعتها من الأخ العزيز الأستاذ الدكتور النائب زياد أبو عمرو : حيث شارك في ثمانينات القرن الماضي في مؤتمر تربوي في دولة عربية ، وتحت رعاية حاكم أو رئيس هذه الدولة ، وكعادة المؤتمرات لها برنامج وجدول أعمال ، ورئاسة لكل جلسة طيلة أيام المؤتمر ، ولذا هناك خصوصية حيث دعي له رجال الفكر والعلم من أساتذة الجامعات وكبار الشخصيات عرباً وأجانب ، إضافة إلى المنظمات الإقليمية والدولية ذات الشأن . جرت أعمال المؤتمر في جو من الاهتمام والحرص على تقديم آخر التجارب الناجحة حول عملية التعليم من قبل ممثلي الدول والمنظمات من خلال الأوراق التي تقدم بها المتداخلون ، والحوارات من قبل الحضور ، والاستخلاصات من قبل المهتمين الحريصين على الاستفادة ، وكعادة المؤتمرات فالكل حريص أن يقدم تجربة بلاده بإطلاقه عبارة النوعية والمتكاملة ، كما يعرض سياسة بلاده ذات الخطط السخية المتمثلة في الموازنة المخصصة لهذه المنظومة من تربية وتعليم وتعلم ، وبشيء من المباهاة ، وكل له سببه وهدفه ورسالته التي يريد إيصالها للآخرين . في اليوم الأخير للمؤتمر جاء حاكم تلك الدولة ليلتقي ويودع ويشكر المشاركين قبل مغادرتهم ، وكانت له كلمة : فقد ارتجل حديثاً جعل الجميع حائرين . بدأ يتحدث عن التعليم وأهميته ودوره وأثره في الإنسان والمجتمع ، وانعكاسه على الدولة وليس في ذلك غرابة ، ولكنه ألجم الحاضرين جميعاً رغم مؤهلاتهم العلمية العالية ، وفكرهم الذي يتغذى منه وعليه الملايين . قال : هناك تعليم وهناك تعلوم . بدأوا ينظرون إلى بعضهم عند سماعهم كلمة تعلوم ، إذ لا غرابة في كلمة تعليم ، وعلا الهمس ، وبدأ الغمز واللمز وبلغات المشاركين حيث أن الكلمة مترجمة بعدة لغات تتناسب ولغاتهم ، ولكن المترجمين لم يجدوا لها ترجمة بأي لغة . أنهى كلمته شاكراً لهم مشاركتهم ، واعتذر عما إذا كان هناك قصور في الضيافة والوفادة . صفق له الحاضرون وقوفاً ولكن بقيت كلمة التعلوم غير مفهومة ، فلم ينجل الغموض ، مما دعاهم يتساءلون فيما بينهم قائلين : كيف يفض مؤتمر كهذا ، وكلمة راعي المؤتمر اعتبرتها هيئة الرئاسة وثيقة من وثائق المؤتمر ، وفيها كلام مبهم صعب على لجنة الصياغة فهمه ، ويؤخذ عليها تدوينه . لم يجد الحاضرون مناصاً من التوجه إلى وزير تعليم ذاك البلد المضيف ، وهو رئيس المؤتمر ، فهو أولى وأحق بأن يسأل عن لغة حاكمه أو رئيسه ، ولكن الأخير لم يكن بأعلم منهم ، فتملكته الحيرة ، ولكنه تجرأ قائلاً : سأعود لكم بتفسير ما عجزنا جميعاً عن فهمه . لحق برئيسه وعلى استحياء أو خوف ، ولكن الخيارات أمامه معدومة ، وبلطف شديد وانحناءة أمام رئيسه طلب منه السماح بالحديث . فأذن له . فسأله عن كلمة " التعلوم " . رد عليه رئيسه قائلاً : هي كلمة موجهة لنا ، أصحاب البلاد حكاماً ومحكومين ، فقد تابعت جلسات المؤتمر من غرفة أراكم وأسمعكم وانتم لا ترونني . كم انتابني من حزن على حالة التربية والتعليم في بلادنا . الموازنة ضخمة ، والمدارس والمعاهد والجامعات تكاد تكون في كل ألف متر ، والتلاميذ والطلبة لا تطأ أقدامهم الأرض فلكل تلميذ أو طالب سيارة وسائق ، ومدرس أو أستاذ إضافي لكل مادة ، ورغم ذلك فليست لدينا تربية ولا تعليم بل لدينا تعلوم . انتهى الحديث بين الحاكم ووزيره . خرج الوزير ولم يعد للمؤتمرين ز وكل فهم الكلمة بمفهومه الخاص وغادروا . وللربط بين البداية والنهاية وللوصول إلى الهدف ، فقد فاجأني شاب يمتهن التصوير كوسيلة يعتاش من ورائها من خلال التقاطه لصور للبعض أو للكل في المناسبات كافة ثم يقدمها لهم فيتلقى مقابل ذلك بعض المال . المفاجأة كانت مجموعة من الصور التقطت لي في احتفالات التخرج في الجامعات الفلسطينية كافة في قطاع غزة في نهاية كل عام دراسي ، حيث كانت لي كلمات في هذه المناسبات ، جلست اقلبها صورة صورة وأتذكر الآلاف من الخريجين في كل احتفال حتى أكاد أجزم أنه لا يخلو بيت من اثنين من الخريجين كحد أدنى . ثم تذكرت أننا في قطاع غزة نكاد نأتي في القريب العاجل من السنوات إلى تشييع أخر أمي أو أمية ، وهذا يعتبر مفخرة للدول والشعوب . تذكرت أثر التربية والتعليم في حياة الشعوب التي تمحى فيها الأمية . والانتقال بها من عصر إلى عصر وليس من مرحلة إلى مرحلة . وتذكرت أوضاعنا في قطاع غزة : إن لدينا مؤسسات دولة عصرية بدءًا بالمدارس والمعاهد والجامعات ، ومروراً بالمعامل والمصانع ، وانتهاءً بالمطار الذي أعفانا من النوم في مطارات العالم ، وترحيلنا بطريقة شحن البهائم . دحر الاحتلال ، ورغم حقده المتمثل في الإضرار بهذه المؤسسات أو ببعضها وهذا ليس مستغربا، إلا أننا كنا أكثر حقداً على منجزاتنا ومشاريعنا ومؤسساتنا . صحيح أننا منتظمون في الدراسة في المراحل كافة ، والاحتفالات بالتخرج قائمة في نهاية كل عام ، وأعداد الخريجين في تزايد ، ولكننا في ذات الوقت قمنا بما لا يتناسب وما نتلقاه في هذه المؤسسات التعليمية من تربية وتعليم وتعلم . دمرنا معاملنا ومصانعنا ، ونقلناها على بيوتنا وقمنا ببيعها بثمن بخس بمعرفة أو بدون معرفة لأثمانها الباهظة ، والأدهى والأمر أننا خربنا مطارنا وبعناه قطعاً سواءً الزجاج أو الأثاث أو الأجهزة أو الحجارة . لم نقف عند ذلك الحد فقد حرثنا المدرج الذي تحط وتطير منه وعليه طائراتنا لنستخرج الحصى لنبيعها وهي " الحصمة " وكنا نعول أن يكون المطار والمصانع والمعامل من مشمولات عملية إعادة الإعمار بعد العدوان الصهيوني على شعبنا في حربه الأخيرة ، إلا أن الخبراء رأوا بأنفسهم ما اقترفته أيدينا بمؤسساتنا ، ولم تعد ضمن ما سيطاله إعادة الإعمار . فمن أين إذن لنا مصانع ، ومعامل ، وطرقات ، ومطار ؟ هل نستطيع الجهر بالقول : إن لدينا تربية وتعليماً وتعلما ؟ نقول لا بل لدينا تعلوم كما قال راعي مؤتمر التربية والتعليم ، الحاكم العربي قبل ثلاثين عاماً . أليس هذا محزناً . معذرة على الألم الذي سيقتحم النفوس ، وعلى الأمل الضائع الذي قد لا يتحقق . أرجو أن تكون وصلت الرسالة وفهم معنى " التعلوم " .