في ختام انتخابات 1992 أعلن يوسي سريد بان رابين سيمرس (سيصبح مثل ميرتس). وكانت ميرتس حظيت في حينه بـ 12 مقعدا، وزعيمها المفوه سارع الى استخدام هذه المقاعد كي يسيطر على حكومة رابين – ظاهرا حكومة حزب العمل – وجعلها حكومة ميرتس. عملية المرسته لحزب العمل لم تتوقف في كل الـ 18 سنة التي انقضت منذئذ، واليوم يمكن الاعتراف بان المهمة انجزت بنجاح: ومع أن من أبهة حزب ميرتس لم يتبقَ سريد، الا ان حزب اسحق رابين رحمه الله بالفعل يبدو اليوم تماما مثل ميرتس؛ سواء من ناحية أجندته أم من ناحية فرصه للصعود الى الحكم في المستقبل المنظور. عمليا، فك ارتباط حزب العمل عن قاعدته الام، مباي التاريخي، قبل ذلك، وبإرادته الحرة. منذ تشكل في 1968، في خلال توحيد مباي مع احزاب اشتراكية اخرى، اجتهد زعماء حزب العمل – مثل يغئال الون، شمعون بيرس واسحق رابين نفسه – للحفاظ ولو على الخطوط الهيكلية لايديولوجيا مباي، التي كانت تشبه على نحو مدهش ما يعتبر، في عصرنا، ايديولوجيا اليمين الصرف. ولكن مع مرور السنين لم يكن بوسع حزب العمل ان يحتمل شعبية الليكود، الذي انتصر في كل المعارك الانتخابية منذ 1977 رغم أن الحكم في اسرائيل كان يفترض، في نظر مباي – العمل، ان يكون احتكارا حصريا له. للنجاح في الحاق الهزيمة أخيرا بالليكود، توجه الى انتخابات 1992 مع برنامج سياسي ممرس منذ البداية. وكان يسمى "تغيير سلم الاولويات الوطنية"، وكان معناه تغيير القيم الاساس لحركة العمل واستبدالها بقيم مختلفة جدا عن قيم الليكود. في حملته الانتخابية أشار "السيد أمن" رابين الى الارهاب، الذي اجتاح شوارع اسرائيل منذ محادثات "السلام" في مدريد، ووعد باعادة الامن والهدوء لمواطني اسرائيل. شركاؤه في الحزب والائتلاف انكبوا على تهيئة التربة العامة لنزع شرعية المستوطنين اليهود في يهودا والسامرة وغزة، بما في ذلك المستوطنات التي اقامها زعماء حزب العمل بجلالتهم. عندما فاز رابين برئاسة الحكومة صرح: "انا سأقرر ، أنا سأوجه الدفة" – وعلى الفور سارع ليمرس، في أعقاب سريد وشعارات "السلام" البائسة خاصته. المأساة مثلما يفهم من أقوال داليا رابين في المقابلة التي منحتها هذا الاسبوع، هي أنه في موعد قريب من اغتياله مال ابوها الى الاعتراف بفشل مسيرة اوسلو وهجر الاتفاق بينه وبين عرفات، وذلك بعد أن تنكر عرفات على أي حال من هذا الاتفاق بكل وسيلة. اما المفارقة، مثلما يظهر من الواقع منذ ذلك الحين وحتى اليوم، فهي أن فعلة يغئال عمير جعلت الاتفاق البائس غير قابل للهجر. اغتيال رابين مجد مسيرة اوسلو مثابة أمر مقدس، منح ياسر عرفات حصانة. جعل الاتفاق مع الفلسطينيين ذخرا حديديا كل زعيم، جاء بعد رابين، ملزم بالتمسك به مهما كان. بنيامين نتنياهو، حقق كما يذكر، انتصارا جارفا امام اسحق رابين في استطلاعات الرأي العام قبل 4 تشرين الثاني 1995، ولكن بعد الاغتيال تغلب بفارق طفيف فقط على شمعون بيرس، الذي امتطى موجات الصدمة التي اثارتها هنا الجريمة الفظيعة. لو بقي رابين على قيد الحياة لنالت دولة اسرائيل على ما يبدو فرصة انقاذ نفسها من مسيرة الارهاب منذ عهد حكمه – او في اقصى مدى مع استبداله بنتنياهو. غير أنه في كل دولة يوجد اناس يسعون الى اغتيال رؤساء الحكم. ولما كانت دائرة حماية الشخصيات في المخابرات لم تحمي رئيس الوزراء كما ينبغي فاننا جميعنا عالقون منذئذ في اعماق جحر السلام الخائب هذا، وما من مخلص. حزب العمل مرس نفسه حتى الجنون، الى أن فرغ مع السنين من كل مضمون، ولم يتبقَ منه سوى جملة نزاعات داخلية وعاملة فلبينية غير قانونية. وكان زعماؤه غارقون في سعيهم اليائس يسارا بحيث أنهم في محاولتهم التخفف من وزن سفينتهم القوا دون تردد، ليس فقط بقيم الاستيطان التي تأسس حزبهم عليها بل وبتميزه الاجتماعي، المبادىء الاشتراكية الديمقراطية التي ميزته في الماضي. ولكن الليكود ايضا لا يعرف حقا ماذا يريد، باستثناء الاثبات بان ليس هو من اغتال رابين، وانه "مع السلام" على نحو فظيع. والتفسير الدارج لكلمة "السلام" – اسألوا ايضا زعماء كديما – لا يزال هو الذي تقرر في اتفاق اوسلو. تفسير كان يمكنه أن يتغير، فيمنع عن الشعبين الكثير جدا من المعاناة وسفك الدماء، لو فقط تبقى اسحق رابين على قيد الحياة في تلك الليلة المريرة قبل 15 سنة.