نتائج الاستفتاء الشعبي في 12 ايلول 2010 في تركيا على الاصلاحات في الدستور تؤشر الى استمرار الجمود في علاقات هذه الدولة مع اسرائيل. ومع ان الاستفتاء الشعبي تطرق الى مسائل داخلية الا انه يمكن أن نرى في نتائجه تأكيدا عاما اعطته اغلبية المشاركين على سياسة الحكومة في مجالات اخرى، بما في ذلك السياسة الخارجية. وزير الخارجية التركي احمد داوداوغلو، يقود منذ زمن بعيد سياسة عالمية واقليمية تقوم على اساس كتابه "عمق استراتيجي" و تستهدف تعزيز مكانة تركيا في المجال الجغرافي – السياسي القريب، ضمن امور اخرى من خلال تعزيز العلاقات مع الدول العربية والدول الاسلامية. هذا الميل والبحث عن دور مركزي في ساحة الشرق الاوسط يشرحان بقدر كبير الازمة الشديدة في العلاقات بين تركيا واسرائيل. وبينما لا تحاول تركيا طمس الازمة مع اسرائيل، فانها تبذل الجهود لتشرح بان تعزيز العلاقات مع دول اسلامية ولا سيما مع ايران لا تمس ولا توجد في تضارب مع رغبتها في تعزيز علاقاتها مع الدول الغربية ورغبتها في مواصلة عملية الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. الاصلاحات التي اقرت في الاستفتاء الشعبي تعنى بتغيير الدستور الذي بدأ بالانقلاب العسكري في تركيا في 1980. وظاهرا جاءت هذه التعديلات كجزء من سياقات التحول الليبرالي الداخلي التي طالب بها ايضا الاتحاد الاوروبي في اطار المطالب التي طرحت في المفاوضات تمهيدا لانضمام تركيا الى الاتحاد. عمليا، من حق حزب السلطة بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان ان يرى في نتائج الاستفتاء تفويضا وتأكيدا واسعين، بل وانتصارا مؤقتا على الاقل على التيار العلماني الذي يقلق على تراث اتاتورك. كما أن للانتصار في الاستفتاء أثر على علاقات الحكومة مع الجيش وذلك لان نتائج الاستفتاء تؤدي الى انجراف آخر في قدرة الجيش على التدخل في السياقات السياسية، الداخلية والخارجية، وان يشكل مركز قوة منافس لحزب العدالة والتنمية. الجيش وجهاز الامن في تركيا شكلا قوة رائدة في تطوير وتعزيز العلاقات بين تركيا واسرائيل. اضعاف مكانة الجيش وقدرة تأثيره على السياسة الداخلية والخارجية سيجعل من الصعب اعادة بناء هذه العلاقات. قضية الاسطول وسيطرة سلاح البحرية الاسرائيلي على سفينة "مرمرة" لم تكن السبب بل المسرع فقط لتدهور العلاقات. على خلفية تطبيق سياسة "العمق الاستراتيجي" في السياسة الخارجية التركية، اعتبرت حملة "رصاص مصبوب" في غزة بعد عدة ساعات من زيارة رئيس الوزراء ايهود اولمرت الى أنقرة ووقف المفاوضات بين اسرائيل وسوريا بوساطة تركية، بعد صعود حزب الليكود الى الحكم في اسرائيل، كتوجيه اهانة لقادة الحكم التركي. قضية الاسطول التركي الى غزة فاقمت فقط وعمقت الازمة في العلاقات. في تصريحات متكررة تعود تركيا لتعرض مطالباتها لاعادة العلاقات الى سابق عهدها. ففي مقابلة منحها وزير الخارجية التركي داوداوغلو لصحيفة "الحياة" (28/ايلول 2010) يطرح مطالب تركيا بالنسبة لنتائج الاسطول بانها موضوع مبدئي وهو يطلب من اسرائيل الاعتذار واعطاء تعويضات لعائلات القتلى. ينبغي الافتراض بان تركيا لن تقبل باستنتاجات "لجنة تيركل" مهما كانت هذه الاستنتاجات. من جهة اخرى، ينبغي الافتراض بانها تنتظر النتائج والاستنتاجات للجنة التحقيق التي شكلها الامين العام للامم المتحدة وهذه لن تنشر حتى شباط 2011. كما ينبغي الافتراض بان اسرائيل لن توافق على الشروط التي طرحتها تركيا لاعادة السفير التركي الى البلاد واعادة العلاقات الى سابق عهدها. على اسرائيل أن تأخذ بالحسبان بانه على الاقل في مجال التعاون العسكري – الامني لا يمكن للعلاقات ان تعود الى سابق عهدها والى الكثافة التي تميزت بها العلاقات قبل الازمات في السنوات الثلاث الاخيرة. ورغم أنه في المقابلة مع "الحياة" وفي تصريحات اخرى لا يعرض وزير الخارجية التركي الوساطة بين اسرائيل وسوريا كشرط، الا انه ينبغي الافتراض بان هذا الموضوع ايضا يشكل مثابة شرط غير مذكور لاعادة العلاقات الى سابق عهدها. من هذه الناحية سهل الرئيس السوري بشار الاسد على اسرائيل وتركيا حين قال في مقابلة مع التلفزيون التركي "TRT" في 6 تشرين الاول 2010 ان الولايات المتحدة وفرنسا هما ايضا تحاولان تحريك المفاوضات بين اسرائيل وسوريا ويفهم من ذلك انه لم يعد يمنح حصرية للوساطة التركية، وذلك خلافا لما قيل في الماضي. الوساطة بين اسرائيل وتركيا في عامي 2007 – 2008 سمح لتركيا بان تعرض احد الانجازات الابرز لسياسة "العمق الاستراتيجي" و "صفر مشاكل مع الجيران". ورغم القول المتكرر لوزير الخارجية التركي عن استعداد بلاده لتعود فتؤدي دور الوسيط بين اسرائيل وسوريا، من الصعب التصديق بان اسرائيل، رغم رغبتها في ترميم العلاقات ستوافق على ذلك. وذلك في ضوء السياقات التي تجري في تركيا والتي وجدت تعبيرها ايضا في اضعاف الجيش التركي وحبس بعض قادته في الماضي (هؤلاء شكلوا الحلقة البشرية الرابطة بين الدولتين) وكذا في نتائج الاستفتاء الشعبي. ولا تقل اقلاقا من ناحية اسرائيل حقيقة التقارب الذي طرأ في السنوات الاخيرة بين الحكومة في أنقرة وبين النظام في طهران. ورغم الاعلانات التركية بانها ستنفذ قرارات مجلس الامن حول العقوبات تجاه ايران فان التفسير الذي تمنحه تركيا لهذه القرارات مخففة (وزير الخارجية التركي في مقابلة مع CNN في 24 ايلول 2010، ادعى بان ليس في قرار 1929 عقوبات مالية ومصرفية على ايران). رغم ما قيل اعلاه، فانه سيكون ممكنا ايجاد صيغ للتوافق مع المطالب التركية في موضوع الاسطول. فاقامة منطقة للتجارة الحرة بين تركيا، الاردن، سوريا ولبنان والمساعدة التركية في اقامة مناطق صناعية في السلطة الفلسطينية تشير الى امكانية كامنة لدور تركي ايجابي في الاقتصاد الاقليمي. كما أن الحاجة لدور طرف ثالث في اطار حل النزاعات بين اسرائيل وسوريا وبين اسرائيل والفلسطينيين، كفيل بان يمنح تركيا دورا ايجابيا ينسجم وتطلعاتها السياسية في المنطقة. اكتشاف الغاز الطبيعي امام شواطىء غزة، اسرائيل وربما في المستقبل ايضا امام شواطىء لبنان وسوريا كفيل بان يمنح تركيا مكانا هاما بالاساس في مجال البنى التحتية للنقليات. نتائج الاستفتاء الشعبي ينبغي ان تؤدي الى الاستنتاج بان على اسرائيل أن تقبل بوضع يواصل فيه اردوغان وحزبه السيطرة في تركيا وينبغي الاستعداد بشكل جذري لهذه الامكانية. السقف السياسي والامني الذي تطرحه تركيا لاعادة تطبيع العلاقات بقيادة اردوغان عالٍ ولكن لدى اسرائيل الادوات والاوراق التي تمنحها قدرة مناورة معينة حيال تركيا. ينبغي تشجيع المبادرات التي تستهدف ازاحة الخطاب التركي – الاسرائيلي عن نطاق التصريحات (في صالح حكومة اسرائيل ينبغي القول بانها في هذا المجال ضربت على نفسها صمتا ولا تنجر للرد على تصريحات السياسيين الاتراك) الى نطاق البحث عن مواضيع للنشاط المشترك الذي تلتقي فيه مصالح تركيا واسرائيل.