إن الحديث عن المفاوضات بين الفلسطينيين وقادة الاحتلال حديث مرير بمرارة النتائج التي تسفر عنها هذه المفاوضات فبين الفينة والأخرى يزداد الحديث عن المفاوضات وتتابع وسائل الإعلام اللقاءات الثنائية المباشرة ولقاءات الوفود من بين الجانبين ، وتـُبنى القصور في الهواء حول ما قد يتمخض عن هذه اللقاءات ونتائجها ، ولكن سرعان ما تتضاءل كل تلك التوقعات وتنتهي اللقاءات دون تحقيق أي إنجاز يذكر بل على العكس نجد أن شروطا ً جديدة قد ظهرت ، وعقبات إضافية قد تم الإفصاح عنها من قبل قادة الاحتلال ، وفي المقابل نجد أن المفاوض الفلسطيني لا يملك من أمره شيء سوى الاستنجاد بأمريكا والرباعية لتقريب وجهات النظر ، والضغط على الطرف الآخر لتخفيف شروطه فيبادر ميتشل (المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط لعملية السلام) إلى الزيارات المكوكية ، وتنتهي الزيارات واللقاءات دون أدنى نتيجة تذكر ، ويواجه ميتشل حقيقة أن لا مجال لأن يغير قادة الاحتلال شروطهم ، أو حتى أن يخففوها لصالح استمرار تلك المفاوضات ! وما قصة تجميد الاستيطان لشهرين عنا ببعيد , وعند تسليط الضوء على حقيقة ما يجري نجد أن عناصر الفشل لهذه المفاوضات ظاهرة للعيان ،ولا يحتاج من المراقب مزيد تمحيص ولا تقليب لبواطن الأمور لأسباب كثيرة جدا ً , هذا عرضٌ لأبرزها : - أولا – أن هذه المفاوضات تجري بين الطرفين دون أي مرجعية ضابطة لعملية التفاوض ، فهي باتت مفاوضات مزاجية ،تـُلقى فيها الشروط جزافا ً ولا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها ،ولا تحديد عناصرها وجداول أعمالها . ثانيا – أن هذه المفاوضات ليس لها سقف ومني ولا إطار يحددها ،فهي موسمية وتتبع رغبة أحد الطرفين ، فمرة يتم تجميدها ومرة إيقافها ومرة تنقطع لفترة قصيرة ومرات تنقطع لفترات طويلة جدا ً .. ثالثا – إ ن هذه المفاوضات يـُعتبر الجانب الأمريكي لاعبا ً أساسيا ً فيها ،وكلنا يعلم أن السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل وممارساتها لن تتغير ،فكيف ننتظر من الجانب الأمريكي أن يكون منصفا ً أو منحازا ً إلى جانب حقوق شعبنا ! بل على العكس نجده دائما ً يبرر ما تقوم به إسرائيل من إجراءات تجاه شعبنا ، وإذا رأى أن من مصلحة استمرار هذه المفاوضات أن يضغط على أحد الجانبين نجده يضغط على الجانب الفلسطيني لضعفه . . رابعا – طبيعة الحكومة الإسرائيلية التي يسيطر عليها اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يرى في الاستيطان نهجا ً وبرنامجا ً لا يمكن التنازل عنه بأي شكل من الأشكال فكيف نتوقع من حكومة هذه طبيعتها أن تقوم بإيقاف أو تجميد الاستيطان كشرط لاستمرار المفاوضات ، علما ً أن الكثير من الأحزاب اليهودية ومنها تلك الموجودة في الحكومة الإسرائيلية الحالية تبني برامجها السياسية على الاستيطان على اعتبار نظرتهم القائلة بأرض إسرائيل الكبرى . . خامسا – إن الحكومات الإسرائيلية جميعا ً والأحزاب اليهودية بلا استثناء ترى في الكثير من مستوطنات الضفة الغربية وكذلك مناطق الأغوار والحدود مناطق لا يمكن التخلي عنها ,أو التنازل عنها لصالح الفلسطينيين لأهميتها الأمنية ، حيث أن أمن إسرائيل مرتبط بوجودها في الأغوار وعلى الحدود وفي المستوطنات الكبرى ، ومثل هذا الموقف كفيل بأن يفجر المفاوضات ، حيث لا تـَجرؤ أي حكومة على أن تـُقـْدِم على التنازل عن هذه المناطق ،فكيف ننتظر نجاح مفاوضات مع أناس هذه عقيدتهم وطريقة تفكيرهم . سادسا – لو تتبعنا المفاوضات واللقاءات التي تمت بين الطرفين لوجدنا أن الطرف الإسرائيلي كان في كل مرة يطرح شروطا ً جديدة الهدف منها إطالة مدة المفاوضات ،وعدم الوصول إلى نتيجة مع الطرف الآخر ، فمرة يطالبون ببدء المفاوضات من الصفر وإلغاء كل ما تم الاتفاق عليه في المرات السابقة ومرة يشترطون اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة كمدخل للمفاوضات ولنجاحها ومرة ثالثة يشترطون استثناء القدس من المفاوضات وتأخيرها إلى مراحل متأخرة ،وهكذا .. كل ذلك بهدف جعل هذه المفاوضات عقيمة وحتى تكون مجرد علاقات عامة ودبلوماسية حتى يتم إقناع العالم بأن عملية السلام تسير في الاتجاه الصحيح ،وأنه لا يوجد هناك احتلال ولا شعب مقهور يطالب بحريته ،ويتم استغلال ذلك لتجميل صورة إسرائيل أمام العالم بعد التدهور الكبير الذي حصل لها جراء حرب غزة وبعد فضح ممارساتها تجاه الفلسطينيين . سابعا – صحيح أن الحكومة الإسرائيلية تستفيد بشكل كبير من استمرار المفاوضات لتحسين صورتها التي اهتزت أمام العالم ولكن يجب أن لا ننسى أنه عندما تتعارض الرغبة في المفاوضات مع الاستيطان فإن الاستيطان يـُقدم بلا شك وبلا تردد لأنه هدف إستراتيجي لجميع الأحزاب اليهودية ،في حين أن المفاوضات هي مجرد هدف تكتيكي .. ثامنا – إن رفض الحكومة الإسرائيلية ورقة الضمانات الأمريكية مقابل تجميد الاستيطان لشهرين أو ثلاثة أكبر دليل على عدم جدية الجانب الإسرائيلي في المفاوضات رغم أن بنود ورقة الضمانات كانت مغرية جدا ً لصالح إسرائيل إلا أنها رفضت ،وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على طبيعة وعقلية هؤلاء القوم الذين يتطلعون دائما إلى مزيد من المكاسب التي يمكن تحقيقها في ظل ضعف المفاوض الفلسطيني الذي لا يملك إلا الانتظار . تاسعا – عدم امتلاك الطرف الفلسطيني المفاوض أية أوراق قوة للضغط على الطرف الآخر بل نجد أن ضعف المفاوض الفلسطيني صار سببا ً في إسالة لعاب الطرف الآخر للحصول على مزيد من التنازلات واقتناص المواقف في ظل غياب أي ورقة يمكن أن تصلـّب المواقف الفلسطينية . عاشرا – وأخيرا ً مطالبة بنيامين نتنياهو لأوباما (حسب ما نقلته صحيفة يديعوت أحرونوت اليوم) أن يعلن مجددا ً التزامه بالضمانات التي أعطاها سلفه جورج بوش لرئيس الوزراء الأسبق أرئييل شارون في 14 نيسان 2004 م , والتي تضمنت تعهدا ً أمريكيا ً بأن تدعم واشنطن فكرة ضم الكتل الاستيطانية الكبرى لإسرائيل في إطار أي تسوية لترسيم الحدود للدولة الفلسطينية , كما أكد بوش في رسالته أن الولايات المتحدة ترفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى حدود دولة إسرائيل ! فأي نجاح يمكن أن يكتب للمفاوضات مع كل هذه الاشتراطات والمطالب ممن يملك القوة الذاتية والدعم الخارجي والسكوت الدولي في مقابل الضعف وغياب أوراق الضغط والقوة . وفي المحصلة لكل ما سبق فإن طريق المفاوضات لا يمكن له أن يكون حاميـا ً للحقوق الفلسطينية فضلا ً عن أن يكون طريقا ً لاستعادتها والحفاظ عليها