"أرجوحة نفسية". هكذا عرّف وزير الداخلية الدكتور يوسف بورغ جلسات الحكومة التي انعقدت واحدة بعد الاخرى منذ الخامس من تشرين الاول 1973 – يوما بعد يوم، واحيانا مرتين في اليوم. راوحت ردود الوزراء في الجلسات من تطرف آخر الزمان الى تفاؤل لا أساس له. يُسمي الخبراء النفسيون هذا بالضبط: وسواس القهر. ليس كل شيء مكتوبا في محاضر الجلسات. لا في تلك التي كُشف النقاب عنها هذا الاسبوع ولا في غيرها. في المباحثات، بين مباحثة ومباحثة اخرى، عملت نفوس حيّة متنفسة دُفعت الى أصعب وضع وأعقده في كل ايام حياتها. فقد واجه وزراء الحكومة وكبار قادة الجيش الاسرائيلي فجأة معضلات لم يعرفوها قط. وتلقوا واحدا بعد الآخر نُذُرا لم يستعدوا لها قط. كان هناك من جملة من كانوا، غولدا مئير ابنة النجار التي شهدت في طفولتها فظائع المذابح في روسيا. ويسرائيل غليلي من قادة الهغاناة ومخططي حرب الاستقلال. ويغئال ألون المولود في البلاد من قرية الطابور، الذي حارب السُطاة البدو في الجليل، وقاد البلماخ وكان قائدا ممتازا في حرب التحرير. وكان هناك موشيه ديان المحارب الأسطوري صاحب الغطاء على عينه. والآن شعروا بأن اعمال أيديهم تغرق في البحر. إن الثقة المطلقة بأنهم يستطيعون التغلب على كل حيلة مصرية – سورية حل محله بمرة واحدة الاكتئاب واليأس والشعور اللاذع بالهزيمة. "تابعت مخاوفي" بعد أن استمعت غولدا في السابع من تشرين الاول بعد الظهر لتقرير ديان الصعب، عن زيارته السريعة في ذلك اليوم للجبهتين، لم تعرف نفسها. حادثت بعض الوزراء منفردة بهم. قالت ليسرائيل غليلي: "ثار في خاطري انه اذا كان الوضع كذلك فكيف سنعيش فيما يُستقبل من ايام؟". تحدثت بلسان الجمع لكنها قصدت نفسها، وسيكشف موشيه ديان عن معنى هذا الكلام بعد مرور سنين، في مؤتمر صحفي في لندن. "في المرحلة الاولى من المعارك فكرت غولدا في امكانية الانتحار"، قال في 1981. لكن لم يكد يمر زمن طويل حتى تنبهت رئيسة الحكومة وتركت فكرة وضع نهاية لحياتها. "عن الشعور بالمسؤولية فقط، وعن تفكير أي انطباع سيترك ذلك فيهم، في المحاربين وفي الشعب كله"، أوضحت. "كان يجب عليّ من اجلهم الاستمرار بالعيش، واستمررت. لكن حياتي الحقيقية انتهت آنئذ". بعد أن انقلب الطبق على وجهه ("عاد العرب ليكونوا عربا والجيش الاسرائيلي ليكون الجيش الاسرائيلي"، كما قال وزير التجارة والصناعة حاييم بارليف)، استعادت غولدا خواطرها الصعبة ايضا على مسمع يعقوب حزان، وهو واحد من قائدي مبام الذي أحبته حبا شديدا: "كنت في حرب يوم الغفران قريبة جدا من الانتحار"، كشف حزان ما كشفته له غولدا. "علمت أن كل محكمة للقيادة ستحررني من كل ذنب عن ذلك الاخفاق الفظيع، لكني لم أكن قادرة على تحرير نفسي من الشعور بالذنب هذا. لم استطع أن أغفر لنفسي أنني لم أتابع مشاعري ومخاوفي (تجنيد قوات الاحتياط وتنفيذ هجوم ردعي). "كنت على يقين من انتصارنا. عرفت هذا الشعب وأبناءه – أبنائي – لكنني لم استطع تحمل الأنباء من الجبهة، التي قالت إن ابناءنا يدافعون عن حياتنا بأجسادهم حقا. شعرت بأن حياتي كشخص عامل محارب قد انتهت. لم تعد عندي قدرة على تحملها". "أخطأت في كل شيء" ماذا كانت لحظة الانكسار؟ وصفت غولدا على مسمع بارليف (الذي لم ينتمِ الى مطبخها، لكن غولدا أحبت اسلوبه الهاديء وحديثه البطيء وتقديره وشخصيته غير المتحمسة) وصفت حضور وزير الدفاع المباحثة في مكتبها: "قال موشيه: اخطأت في كل شيء. نحن معرضون لكارثة. سنضطر الى الانسحاب من الجولان حتى حدود الهضبة المطلة على الغور، وفي سيناء حتى الجبال، وأن نصمد هناك حتى آخر رصاصة". اثنتان وعشرون كلمة شديدة، ناقضت مناقضة مطلقة الكلام الذي صدر عنه قبل ذلك بيوم. استدعت غولدا ايضا وزير المواصلات شمعون بيرس، صديق ديان الحميم. بعد أن سمع هذا الكلام أسرع بيرس الى وزارة الدفاع، الى مكتب رئيس مكتب الوزير، حاييم يسرائيلي وقال له: "عدت تواً من عند غولدا. انها دهشة بكليّتها. لماذا كان يجب على موشيه أن يقول لها كل هذا؟". كتب يسرائيلي هذا الكلام في طبق ورق، وخرج من غرفته الصغيرة مسرعا، ودخل على ديان وكرر أمامه كلام بيرس. لم يتأثر ديان، كما قال يسرائيلي بعد ذلك. قال: "غولدا هي رئيسة حكومتي، وأنا وزير دفاعها. اذا أخفيت عنها شيئا أراه، فلن استطيع الاستمرار على الخدمة تحت إمرتها حتى دقيقة واحدة". "نجوت بمعجزة فقط" في جلسة الحكومة التي تمت بعد تقرير ديان الذاعر المذعور، تبيّن أن صد القوات المصرية والسورية الى ارضها غير قابل للتنفيذ. أعلن وزير الدفاع في الحقيقة أن الجيش الاسرائيلي غير قادر على نقل الحرب الى ارض العدو. صعب على الوزراء أن يهضموا الواقع الجديد الذي يناقض النظرية القتالية للجيش الاسرائيلي. قالت غولدا "لا يمكن أن يتغير الخط بغير قوتنا". "الوضع الذي نحن فيه الآن يُذكرنا بصور في سنة 1948"، سُمع صوت غليلي. عمل شبه نائب وزير دفاع الى جانب دافيد بن غوريون في حرب الاستقلال، وتذكر جيدا أنه في اليوم الذي دخلت فيه الجيوش العربية، تقصد القضاء على الدولة الحديثة الولادة، لم يكن ثمة أي يقين في أن تنتصر اسرائيل في المعركة التي فرضت عليها. عرفت غولدا بالضبط ما الذي قصده. فقد جربت ذلك بنفسها. ففي الثامن والعشرين من كانون الاول 1947، عندما عملت رئيسة القسم السياسي في الوكالة اليهودية، خرجت في قافلة إمدادات من تل ابيب الى القدس. هوجمت القافلة في الطريق وقالت عندما وصلت القدس "نجوت بمعجزة فقط". "لن أُعرض الجيش للخطر" إن غولدا، التي عرّفت نفسها بأنها "يهودية عجوز" عشية انتخابها لرئاسة الحكومة، لُقبت حتى الحرب "الرجل الوحيد في الحكومة". وهنا، كان يُخيل أنها عادت في لحظة لتصبح يهودية عجوزا. وديان، رئيس الاركان السابق الذي سبقه صيته في الشجاعة والصمود في الحرب، كان يبدو انه إنهار. مع عودته من جولة في الجبهتين، وقبل أن يدخل الجلسة الحاسمة عند غولدا، دعا ديان حاييم يسرائيلي الى غرفته، وفضل أن يُشركه قبل كل شيء في انطباعاته. "سنضطر لصد المصريين الى التضحية بأفضل شباننا. واذا نجحنا فسننجح. واذا لم ننجح فان الطريق الى تل ابيب قد تكون مفتوحة أمام المصريين. لهذا لا أوصي بتعريض الجيش للخطر من اجل صد المصريين الى القناة". نهض من مكانه، وتقدم الى الخريطة الكبيرة التي كانت مبسوطة، وأشار الى مواقع جنود الجيش الاسرائيلي، بعيدا عن خط بارليف، الى الوراء. "سأوصي بالبقاء عند هذه الخطوط"، قال. لكن يسرائيلي، الذي رأى المنطقة الواسعة التي انسحب منها الجيش الاسرائيلي، لم يكن متفائلا كثيرا فسأل: "هل نستطيع البقاء عند هذه الخطوط". "الى الأبد"، أجاب ديان بالانجليزية. في تشرين الثاني، بعد أن وضعت المعارك أوزارها مباشرة، بدأت تتعاظم الاشاعات عن كلام ديان المذعور في ايام الحرب. "لم أقترح قط – لا على الحكومة ولا على أي حلقة اخرى – وقف الحرب، والانسحاب من الهضبة ومن سيناء أو شيئا كهذا"، أجاب منتقديه. "كان الشيء الوحيد الذي أمرت به هو اعداد خط ثانٍ بعد سقوط خط بارليف، لمنع الانسحاب من سيناء". وبالمناسبة لم يتم العثور حتى اليوم في أي وثيقة أو تسجيل على قول تاريخي آخر نُسب الى موشيه ديان وهو "خراب الهيكل الثالث". "لو رأيت الورقة" في حوالي الخامسة بعد الظهر في الخامس من تشرين الاول، ضبطت وحدة تجميع المعلومات في "أمان"، 848 (وهي اليوم 8200)، معلومة أرسلها سفير العراق في موسكو الى المسؤولين عنه في بغداد. فقد أبلغ أن اجلاء الرعايا السوفييت من مصر وسوريا ينبع من نيتهما الخروج للحرب. سُلمت المعلومة الى قائد الوحدة، يوئال بن – بورات، الذي مكث في مكتبه برغم أن يوم الغفران كان يوشك أن يدخل في كل لحظة، وأبلغها فورا لرئيس لواء البحث، أريه شيلو. أدرك المناوب في اللواء، ايلان تهيله، خطورة المعلومة، التي تناقض تماما جزم الجيش الاسرائيلي أن تركيز القوات على الحدود هو نتاج استعداد سوري وتدريب مصري. رأى تهيله مضمون البرقية تصديقا للافتراض المعاكس، الافتراض الذي تمسك به، وكتب وثيقة لتوزع فورا، "حمراء" بالمصطلح الاستخباري، كان يفترض أن تبلغ جميع العناوين المحددة في غضون ساعة. في الوقت نفسه أجرى تهيله اتصالات جارية بضباط في أمان، تجادلوا في أنه هل ينبغي نشر الوثيقة. في الساعة 23 فقط، بعد تلقي المعلومة بأكثر من ست ساعات، هاتف تهيله رئيس أمان ايلي زعيرا، لكنه أمر بتأخير توزيع ورقة المعلومات. انتظر مكالمة هاتفية من رئيس الموساد، تسفي زمير، الذي أجرى في لندن لقاءا عاجلا مع عميله المصري الرفيع المستوى. علم رئيس الاركان دافيد اليعيزر بذلك بعد الحرب فقط، وقال أمام لجنة اغرينات غاضبا: "جلست في مكتبي في هيئة القيادة العامة حتى التاسعة مساءا. اعتقدت في سذاجتي أن كل ما كان يجب فعله بحسب صورة المعلومات الاستخبارية قد جرى فعله، ولم أعلم انه قبل ذلك بأربع ساعات بالضبط، في الطبقة فوقي قد وضعت معلومة عن الحرب لم يُظهرها أحد لي.. لو رأيت الورقة لَ .."، وهنا فصّل كيف كان سيعمل. عندما تساءل اعضاء لجنة اغرينات على مسمع اللواء زعيرا لماذا لم يجهد نفسه في ابلاغ رئيس الاركان، أجاب بأن الجيش الاسرائيلي كان على أعلى استعداد. وزعت الوثيقة في الواقع في الساعة السادسة والنصف صباحا، بعد أن أبلغ زمير من لندن أن الحرب تقترب. "لماذا لم يقولوا لنا؟" لنعد قليلا الى الوراء، الى الساعات التي سبقت نشوب الحرب، عندما كان الجو جديا لكنه بعيد جدا من اليأس. "اليوم قبل المساء، مع حلول الظلام، أو قبل ذلك أو بعده بقليل، سيبدأ الهجوم على اسرائيل"، أعلن وزير الدفاع في جلسة الحكومة التي عقدت في ظهر يوم الغفران. اعتمد على بلاغ مصدر تسفي زمير، اشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والمساعد المقرب لوريثه أنور السادات. ولم يعرف أن يقول أي واحدة من الاثنتين ستطلق الرصاصة الاولى. كانت جلسة الحكومة هذه معدة لأن تُجرى في الغد، لكن "عرضا وفي معجزة بلغتنا المعلومة. كان يمكن بيقين ألا نعلم حتى قبل بضع ساعات من الحرب انها ستنشب"، قالت غولدا. كان مصدر سلطة الحكومة في ذلك الوقت ديان، الذي عرض على الوزراء في ثقة كبيرة خطط مصر وسوريا الحربية: ستنشب الحرب في الجنوب في الليل، أبلغهم، وقصد السادات عبور القناة، وتقديم الصواريخ واحتلال مواقع، واحتلال شرم الشيخ. قد يقصفون المدن وفيها تل ابيب. وقال وزير الدفاع ان السوريين يطمحون الى احتلال هضبة الجولان كلها. دهش الوزراء. فقد سمعوا لاول مرة عن حرب على الأبواب. "لم نعلم شيئا الى أمس"، غضب وزير السياحة موشيه كول، لكن وزير العدل، يعقوب شمشون شابيرا كان الوحيد الذي سأل سؤالا مصيريا: "نحن ننتظرهم عندما يحل الظلام. فماذا يكون اذا بكّروا؟". سكّنهم ديان، وقال أُخذ هذا الامكان في الحسبان، فسلاح الجو سيجري طلعات منذ ساعات بعد الظهر في منطقة القناة. وعاد وسكّنهم قائلا إن خطط العدو معلومة لنا منذ زمن. لماذا لا نسبق المرض بالدواء ونضرب ضربة ردعية؟. "توسل دادو وجميع الآخرين"، قالت غولدا، "امنحونا نصف ساعة لعملية نبادر اليها، سنقضي على مطاراتهم وصواريخهم ونحسم الأمر". وهنا غضت صوتها وأضافت: "أعترف وأصرح بأن قلبي مجذوب الى هذا كثيرا، لكنني أعلم في أي عالم نعيش، وقد قلنا جميعا "مؤسف جدا لكنه لن ينجح".." (بسبب طلب امريكا ألا تهاجم اسرائيل). آنذاك اتفق الوزراء على انه اذا أطلقت مصر الرصاصة الاولى، فستوجه ضربة ايضا الى السوريين. لكن اذا بدأ السوريون اطلاق النار فلن يضرب الجيش الاسرائيلي مصر. ولم يخطر بالبال قط ما حدث في واقع الأمر في ايام القتال الاولى. "يبدو أن الحرب بدأت" نظرت غولدا في ساعتها. كانت تقارب الثانية. اقترحت عقد جلسة حكومة اخرى بعد ذلك. ربما في الرابعة، عندما يكون قد بقي ساعتان لبدء الهجوم. بعد ذلك جزمت بقولها: "الرابعة والنصف.. واذا"، تابعت حديثها، "بدأوا حتى الرابعة والنصف..". قُطع كلامها بصفير إنذار يعلو وينخفض. سألت رئيسة الحكومة "ما هذا؟". "يبدو أن الحرب بدأت"، همست لها المختصرة القديمة متكا يافا التي جلست الى جانبها. "نار داس بعلاط مير"، قالت غولدا بالايديش. هذا ما ينقصني فقط. دخل القاعة يسرائيل ليئور، السكرتير العسكري لرئيسة الحكومة وأبلغ أن "السوريين بدأوا اطلاق النار". "سيندمون على هذا"، قالت غولدا بالانجليزية. "سينتهي هذا بمذبحة كبيرة" مع خروج يوم الغفران وصل ديان لجنة الخارجية والأمن. وأوضح أن التوقيت هو الذي فاجأنا. "انهم ينفذون خطة معروفة لنا". صب على اعضاء اللجنة معطيات اخرى ولخص قائلا: "آمل أن ينقلوا قوات كثيرة في سيناء ويتركوا مقبرة مصرية كبيرة.. اعتقد وآمل وأريد أن ينتهي ذلك بمذبحة كبيرة لقواتهم. "يريدون في الشمال احتلال هضبة الجولان كلها: خسر السوريون المعركة في الحاصل. اذا جرت الامور على نحو جيد في الجبهتين، فسينتقل الجيش الاسرائيلي في مرحلة ما الى الهجوم وعندها قد يدفعون ثمنا باهظا عن هذه الحرب". لكن مع بزوغ الفجر تبيّن أن معطيات ديان انهارت مثل خط بارليف. فقد أعلن رئيس الاركان في جلسة الحكومة في العاشرة صباحا قائلا: "نحن في معضلة". "اتصال بالله" كان وزير الخزانة العامة بنحاس سبير، وهو رجل عاطفي رُئي أكثر من مرة يذرف الدمع، متشائما جدا في بداية الحرب وتوكل على رحمة السماء. ومن اجل الاقتراب من الخالق، دعا رجل الصناعة الحريدي ابراهام شابيرا مالِك "شتحيه كرميل"، الى البقاء في مكتبه في الكرياه مدة ايام الحرب. سمّى موشيه ديان هذا "اتصالا بالله".