لا تكفي زيارة عابرة إلى قطاع غزة لفهم ما آلت إليه الحياة فيها، ولا تكفي الصور ولا التقارير الصحافية لاستيعاب التحولات في أعماق من يحيا هذه الحياة، ولا الدردشة على وليمة غداء في مطعم الديرة أو السلام أو عشاء في الروتس ولا أثناء تناول شطيرة فلافل عند أبو طلال، فعلى من يريد إدراك ما يدور تحت سماء رهينة البحر والبر أن يُشاطر أهلَها أيامهم ولياليهم، ليس المعدودات، بل على امتداد أشهر وربما سنوات.. عليه أن يقف في طابور أمام فرّان، ليس لمرة أو اثنتين، بل كل يوم، وأن ينتظر سيارة أجرة تحت الشمس نحو نصف ساعة، ثم يُقرر مكرها السير كي لا تفوته محاضرة أو دفتر التوقيع على الدوام، وأن يتنقل كالمكوك بين غرفة نومه ومدخل منزله وسطحه محاولا النوم، منذ التاسعة مساءأو قبل ذلك، أو قبل ذلك، فماذا يفعل السجين المُفلس في العتمة القسرية سوى النوم؟ ثم عليه أن يتنفس دخان النفايات المحترقة، فيدمن عليه وعلى سلسلة من المقشّعات الطبيعية والكيماوية، وعليه أن يُجبَر على المكوث في غزة عاجزاً عن الرحيل عنها للعلاج أو الدراسة أو الالتحاق بعياله في بلد آخر، ليُدرك عذاب العاجز عن السفر.. والأكثر إلحاحاً عدا ذلك أن يجد ضالته في أحد المهدئات المشروعة كالصلاة والتقرب من الله بوصل رحمه، أو نصف المشروعة كالسجائر والشيشة، أو غير المشروعة كالترامال والحشيش، كيلا يكون منبوذا من الآخرين، لكثرة تذمره ونزقه من الحياة في غزة.كيف نُفسّر ذلك وما هو أكثر، وإن كانت غزة نعمة يتمنى آلاف من أبنائها العودة إلى بحرها وساحلها المُطَعّم بكروم الشيخ عجلين التي تشرف عليه، للمّ الشمل مع أهلها الطيبين الصابرين؟ وكيف نُفسّر شغفا حدّ الهوس يراود آلافا من شيب غزة وشبانها للرحيل عنها، توقا لحياة غير التي يعيشونها، دون أن يكون رحيلاً بلا رجعة، بل إلى أن يتغيّر الحال؟ هل يتغيّر الحال؟ سؤال لا يُفارق غزيّا، على اللسان أو طيّ النفوس، دون أن يُفسّر أحدهم مفهومه لهذا التغيير، فكُلُّ من لا يُعجبه حاله يرى أن السبب حالُ غزة، التي يسودها الفقر والبطالة وتدهور الوضع الصحي والتعليمي وفقدان الإحساس بالأمان الفعلي وسخافة التفكير في المستقبل وسريالية الأحلام التي يسردها الأطفال لأمهاتهم المنشغلات بتدبير شؤونهم.. وما من غزي ليس مصاباً بواحدة على الأقل مما سبق، إلا من يعيشون في نعيمهم النادر، الذين يقلبون مصير الحال في المقولة السائدة "دوام الحال من المحال"، إلى "تغير الحال من المحال"! "نعم، قد يتغيّر الحال"، يقولها للسائل سائقُ تاكسي يتسلّى، أو مثقف يُخفّف عن المتعرقين المتذمرين في طابور استلام الرواتب في البنك، مجتذباً انتباه قلة منهم، لأن أكثرهم يودون لو يصمت السائل والمسؤول، فآذانهم وعيونهم مشدودة إلى الصراف."متى"؟ يُصرّ السائل فيرد المسؤول: "حين يطرأ على الحال فعل ناسخ"، موضحاً بعد انتباه آخرين أن التغيّر لن يأتي إلا بفعلٍ يُغيّر ما يُحسه الناس ويرونه كل يوم، فِعلٌ لا ينتظر منهم أن يوافقوا عليه أو يرفضوه، بل أن يتقبّلوه طائعين كأمر واقع طاغ، كما يفعل الفعل الناسخ بالخبر، ينصبه بعد أن كان مرفوعاً، أي يُغيّره من حال إلى حال! "إحكي عربي، كلام نفهمه"! يهتف السائل، يُهَمهِمُ الآخرون تأييداً له، ثم يردف "يعني هل ثمة مصالحة، وهل من جدوى للمفاوضات، فينتهي الانقسام والحصار، أم سنظل ندور عالفاضي، والعي عي والصي صي"؟ لا تُعجبهم التحليلات السريعة التي تُلّخص الأمر في هيمنة إرادة اللاعبين الكبار على كل شيء، وضعفنا الشديد، ليس في غزة فقط، بل في كل فلسطين، أما الحديث عن الحرب أو اجتنابها فلا يحتل من اهتمامهم شيئاً، لأنهم لا يريدون الخروج من دائرة الاهتمام باللحظي المباشر، كالراتب وما سيحدث هذا المساء، وليكن الكلام بعد العشاء و"التحلاية" والغناء، عندها سيغنّون مواويل الوحدة والحرية والسلام، وسيتبادلون بث الطمأنينة في النفوس، باستعراض ما يقوله زعماؤهم عن قرب الخلاص، دون أن يثير تشاؤمهم كلامُ غزة القاسي عن رام الله، ولا كلامُ الأخيرة عن الأولى، ثم سيحاولون الرقاد لاصطياد أحلام الديمقراطية، التي ما عادوا يصدقونها، حتى لو تحققت في الصباح التالي، بعد أن يَطمئنّوا على صغارهم في مضاجعهم، وهم يتابعون أحلام يقظتهم همسا تحت أغطيتهم، يحاولون التسلل من عتمة الغرفة وضجيج المولدات إلى بحر الخيال الطفولي، بوحي من الألعاب الحربية وأفلام الرعب والمسلسلات العاطفية التركية!tawfiqwasfi@yahoo.com