تمتلئ الساحة الفلسطينية بالفصائل السياسية التي تمزق شعبنا الفلسطيني وتكرس الحزبية على حساب المصالح الوطنية العليا لشعبنا والمصالح العليا القومية، وتكرس حالة الانقسام والشرذمة التي يكتوي بنارها شعبنا، والتي يستغلها العدو الصهيوني في التنكيل بشعبنا والنيل من عزيمته ووحدته. وهي حالة لا يستطيع شعبنا تحملها في الوقت الذي يعيش صراعاً وجودياً مريراً مع عدو منظم، وهو العدو الصهيوني. ولو اقتصرت المشكلة على كثرة الفصائل الفلسطينية الفاعلة وغير الفاعلة في مجتمعنا، والتي لا يوجد أي مبرر منطقي أو سياسي أو ديني لوجودها أصلاً، لهانت المشكلة، ولكن الأمر أخطر من ذلك بكثير، إذ نجم عن الفسيفساء الفصائلية والحزبية فوضى فصائلية عارمة تتمثل في؛ احتكار شرذمة مارقة ومتعصبة حزبياً تمثيل شعبنا لدى المجتمع الدولي، وانعدام آليات العمل الوطني التوافقي والحشد الجماهيري والرسمي لقضية فلسطين على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وتناقض أجندات كثير من الفصائل لحد التنازع والتناحر، وغياب الشراكة السياسية، وانعدام عملية تبادل السلطة وفق الانتخابات العامة الحرة والنزيهة. ومما يدعو للأسف الشديد أن معظم الفصائل الموجودة على الساحة الفلسطينية لا مبرر لوجودها ولا فاعلية لها ولا حاجة لشعبنا بها، بل إن هذه الفصائل تشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل شعبنا وقضيته، إضافة إلى أنها لا تمثل طموحات شعبنا وأهدافه الوطنية، وأن نهج العديد منها يتناقض مع ثقافة شعبنا العربية الإسلامية. كما أن العديد من هذه الفصائل لا تملك رصيداً شعبياً يؤهلها لحمل هموم شعبنا وقيادته وتمثيله. كثير من الفصائل الموجودة اليوم في الساحة السياسية الفلسطينية انشقت عن فصائل أخرى، ثم تبين بعد ذلك أن الفصائل المنشقة لا تختلف جوهريا عن الفصائل التي انشقت عنها، بل ذابت هذه الفصائل الصغيرة في الفصيل الأكبر الذي انشقت عنه، وعلاقة حركة فتح بفصائل منظمة التحرير الفلسطينية تجسد هذه الحالة البائسة المتمثلة في ذوبان الفصائل في جوف حركة فتح. بعض المجموعات الفوضوية التي تنشأ في المجتمع الفلسطيني لا تحتاج لقيامها سوى إلى الإعلان عن تشكيلها ونشأتها، دون أن يكون لها فكر ودستور ونظام ومفكرون مؤسسون، ودون أن يكون لها رسالة محددة وأهداف ورؤية واضحة! المعضلة الكبرى التي تواجه شعبنا تكمن في أن معظم هذه الفصائل أصبح هدفها الوحيد هو الحفاظ على وجودها الحزبي وتحقيق مصالحها الحزبية وحصد أكبر قدر ممكن من الامتيازات لصالح قادتها وكوادرها، وكأن وجود هذه الفصائل هو هدف بحد ذاته، حتى لو أضرت مواقف هذه الفصائل وممارساتها بشعبنا وقضيته ومصالحه. والمعضلة الأخرى تكمن في عدم وجود ناظم شرعي لهذه الفصائل يحدد أدوارها في إطار توافق وطني وفقاً لثقلها وحجمها وشرعيتها الشعبية في مجتمعنا الفلسطيني. والأكثر من ذلك أن أجندات حزبية أو فصائلية متناقضة كثيرة تتزاحم في الساحة السياسية الفلسطينية، ولا يوجد آلية محددة للتنسيق بينها أو حل نزاعاتها، ولا يوجد لنا برلمان فاعل يقود شعبنا ويسن القوانين التي تنظم هذه الفصائل وعملها ويضع المعايير التي يجب أن تلتزم بها هذه الفصائل حتى يصبح لها الحق في الوجود والعمل الحزبي السياسي. وعلى النقيض من هذا الوضع الفلسطيني البائس، يتمتع العدو الصهيوني بآليات ومؤسسات سياسية رسمية تنسق بين الأجندات المختلفة وتصهر الأحزاب السياسية المتنافسة في بوتقة واحدة لخدمة الأهداف الصهيونية والمشروع الصهيوني. كما أن الحركة الصهيونية تشكل بوتقة لكل الأحزاب السياسية اليهودية والصهيونية الداعمة للكيان الصهيوني، فقبل عدة أسابيع اجتمع نحو 70 منظمة يهودية وصهيونية في مؤتمر يناقش الأخطار التي تواجه الكيان الصهيوني. أما نحن الفلسطينيين، فما زلنا غير قادرين على الاجتماع في مؤتمر واحد قادر على تبني أهداف وطنية تجتمع عليها كل الفصائل والأحزاب الفلسطينية. تصور أن شعبنا حتى الآن غير قادر على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه له حكومتان، إحداهما محاصرة ومعزولة ومحاربة، وهي الحكومة التي تحمل هم شعبنا وقضيته وتمثله إلى حد كبير، وحكومة أخرى مرتهنة لقرار العدو الصهيوني والأجندة الأمريكية في منطقتنا، وهي الحكومة التي يمثل المال الغربي المسيّس شريان حياتها. كما أن المجلس التشريعي معطل، فهو غير قادر على تحقيق الإصلاح والتغيير في أي من المجالات، لأن التغيير يحتاج إلى موافقة ثلاثة أرباع أعضاء المجلس التشريعي، وهذا العدد من الأعضاء غير قادر على الاجتماع في مكان واحد لأسباب يعرفها الجميع. لن يتمكن شعبنا من الخروج من المأزق الذي يعيش فيه منذ عشرات السنين تحت وطأة الاحتلال الصهيوني قبل أن ينهي الفوضى الفصائلية، ولن يتمكن من النهوض بقضيته إقليميا وعالميا قبل أن يحل معضلة التشرذم التي ابتلي بها. فمع استمرار حالة الفسيفساء الفصائلية لا مكان للوعي السياسي في حياة شعبنا، فالحزبية طغت على العمل السياسي والهوية الوطنية الفلسطينية، وأصبحت الفصائل تتحكم في الوعي السياسي وتستخدمه في تعزيز الفصائلية وخدمة المصالحة الحزبية الضيقة. إن أقل ما هو مطلوب لحل هذه المعضلة هو أن يضطلع أصحاب الرأي من أبناء شعبنا بتأسيس الوعي المطلوب بمخاطر هذه المشكلة التي نحن بصددها في العقل الجمعي الفلسطيني، للحد من الفوضى الفصائلية، ووضع حلول تدريجية لمعضلة الفسيفساء الفصائلية.