ذات ليلة جلست الى الشاشة الصغيرة وهي في كل بيت ، ولئن كانت صغيرة في حجمها إلا أنها كبيرة باتساع العالم ، بفضائله ورذائله ، بحسنه وسيئه بفوائده ومضاره . بعلمه وجهله ، بخيره وشره الى آخر كل شيء ونقيضه . قادني الى اختيار اسم لهذا الجهاز الصغير غير الذي اتفق عليه العرب والعجم ، وخشيت أن أضع نفسي في مساءلة هذا الطرف أو ذاك أو أدخل في عراك مع مجمع اللغة العربية فاخترت له اسماً خاصّّاً بي أنا ولا أطلب من أحد أن يحذو حذوي في تسميته . " أسميته بدون " . ولكن لا علاقة لهذه التسمية بالعنوان ولا بالموضوع الذي يشكل المقالة المراد تسطيرها . قلت جلست لأرى حرباً في إحدى الفضائيات ولكنها حرب تختلف عن الحروب التقليدية المعروفة لدينا جميعاً .العقل تتطاير ، وزجاجات الماء كأنها القذائف واللوحات الحاملة للأسماء كأنها صواريخ الباتريوت تصطدم ببعضها في أجواء المعركة ، أي أجواء القاعة ، وبدلاً من هدير الصواريخ سمعت شتائم وعبارات عرفتها أنها كذلك لأن حركة الأيدي والعلامات على الوجود لا تنم إلا عن ذلك ، ورغم ذلك لم أفهم شيئا.بقيت حائراً بعض الوقت ، مللت من المشهد المتكرر حتى جاء من خلصني وأخرجني من حيرتي هذه ، إنهم الأشخاص خارج القاعة وما يحملون من لافتات ، وما كتب عليها : نحن أصحاب الأرض الحقيقيون ..... نحن لسنا عبيداً ..... نحن لسنا مرتزقة ..... نحن لا نستجدي . نطالبكم بوضع حد لمعاناتنا ، كفى ظلماً لنا ، ألم نعمر نحن الأرض ؟ عظام أجدادنا يضمها تراب هذا الوطن . هذا ما استطاعت ذاكرتي وما قويت على حفظه . وتحت كل شعار كلمة البدون ، يعني لا اعتراف بهم مواطنين من أبناء هذا القطر .هذا المشهد حرّك لدي مشاهد كثيرة بحكم معرفتي بهموم الأمة وأبنائها ، وتفاصيل حياتهم لأنني عشت مرارتهم وحياتهم الضنك ، وهي مازالت قائمة بل تتفاقم كل يوم . من المشاهد التي أتذكرها ما تم تناوله من حديث بين شباب يعبرون عن شريحتهم وهي غالبية في أوطاننا ، أطلقوا على أنفسهم " حيطست " وهي وصف لأولئك الذين لا يملكون إلاّ الجلوس إلى الحائط ، فهو مقر اجتماعهم ومكان مسامرتهم ، وإليه يركنون ويرتكزون انتظارًا لدورهم في النوم ، لأن غيرهم من أشقائهم ينام ، وعليهم أن ينتظروا حتى يفيقوا ويغادروا مهاجعهم ، فيسلمون أنفسهم إلى الحائط ويغادر من قبلهم ليحلوا محلهم لأخذ قسط من الراحة والنوم .هنا قد يستهجن البعض ويعتبر ذلك نوعاً من الخيال ، كلاّ والله إنها الحقيقة . إنه جيل بدون مأوى . في حلقة بثت على جهاز " بدون " بتسميتي استمع فيها الى المضطرين إلى ركوب البحر في مراكب قد تصلح لشحن الدواب ولكن بما لا يزيد على حمولتها حرصاً على هذه الدواب .ذات مرة من مئات المرات حُملت المركب بالمئات من شباب الأمة في حين لا تحتمل إلا لعشرات كان من نصيبهم الغرق إلا أربعة هم الذين استضافهم البرنامج ليتحدثوا عن المأساة والظروف والأسباب التي دعتهم ودفعتهم وأجبرتهم على ركوب الأهوال ذات المصير المحتوم مسبقاً .مما قالوه والدموع تنهمر من أعينهم إما للمصير السيئ أو لفراق أصحابهم الذين ربطهم معهم حلم العيش في بلاد الاغتراب التي حتما ستكون أحن عليهم من بلادهم . إنهم بدون عمل .مشهد آخر يتحدث عن فئة تعيش على أرضها ولكن لهدف واحد فقط وهو تأمين رغيف الخبز فأسموا أنفسهم "الخبز ست" لأنهم بدون تفكير وارتضوا كذلك لأنه غير مسموح لهم باستخدام عقولهم ، فقرروا تعطيلها وإلى الأبد مقابل الحصول على رغيف الخبز.ثم تعالوا بنا نتجول في بلاد العرب لنقف على بعض من مآسي أبنائها وليس على كلها ، لأن التفاصيل الدقيقة تدمي القلوب وتدفع الإنسان إلى القوم ليتني لم أولد حتى لا أرى ، وأعيش الحسرة والهم والخوف على مصيرهم.أولاد علي حسب التسمية المصرية ، و ص .ش. حسب التسمية الليبية : هم قرابة المليونين يعيشون بين مصر وليبيا ، المصريون يسمونهم بأولاد علي ، والليبيون يدعونهم بآل ص . ش .والحرفان يختصران كلمتي الصحراء الشرقية . فلا هم مصريون ، ولا هم ليبيون ولكنهم يعيشون حياة قاسية ومتهمون بسلوكيات غير مرضية ،وقد لا يلامون على ذلك لأنهم يدفعون لها دفعاً فهم بدون هوية أو تابعية . أما الطوارق فعددهم لا يقل عن ثلاثة ملايين كذلك يتنقلون بين جنوب المغرب وموريتانيا والجزائر وليبيا .ومصيرهم إلى المجهول لأنهم بدون استقرار واعتراف بانتمائهم أهم عرب أم أفارقة من أصل نيجري ومالي ؛ ونيجيري وتشادي .وهذه المناطق التي يأخذ منها تنظيم القاعدة مجالاً للحركة والنشاط والتنظيم والإعداد باسم الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي .إن الأمر لن يتوقف عند الحديث عن هذه الجماعات بل الخشية من استغلال حالتهم وجموعهم من قبل الراسمين لخريطتنا العربية الجديدة من قبل من أتينا على ذكرهم في مقالة سابقة ، وفي غفلة من القائمين على أوضاع الأمة الغارقين في حياتهم الخاصة ، ويتركون أبناء شعوبهم تتلقفهم التنظيمات وتجرفهم التيارات ، ذات الأهداف المستهدفة لتاريخنا كأمة عريقة .عليها أن تحصد وتجتر الألم.إن آخر اختبار وجدت الأمة نفسها أمامه ما حدث بالأمس عند التصويت على إرغام اسرائيل التوقيع على معاهدة انتشار السلاح النووي .لقد فشلت الأمة في حشد واحد وخمسين صوتاً وكل ما استطاعت حشده ستة وأربعين صوتاً أليس ذلك محزناً ؟أين أموال الأمة التي توظف لإنعاش اقتصاد دول عديدة ومنها أمريكا في إرغامها لدولنا بشراء السلاح وغيره لتحل مشكلة العمالة وتخفف الضغط على دافعي الضرائب ، وكذلك من بريطانيا ، وفرنسا وألمانيا وإيطاليا .أين علاقاتنا الإستراتيجية بالدول الإسلامية ودول أمريكا اللاتينية والدول الإفريقية .كل ما استطاعت أمتنا حشده فقط أربع وعشرين دولة خارج المجموعة العربية .أليست هذه الهزيمة كفيلة بأن تجعلنا نعيد قراءتنا لأحوالنا وسياساتنا ، ونعرف قدرنا عند العالم أم أن الفشل والهزيمة قدرنا وعلينا أن نواجهها برحابة صدر لأننا بدون .إذن القضية ليست قضية فئة أو مجموعة أو جماعة ولكنها الأمة برمتها فهي أمة بدون .وعلى الأمة أل ... بدون أن تبقى في الغيبوبة ولن تفيق إلا بعدما يحدث ما حدث لأبي محمد الصغير حاكم غرناطة عندما أحس بضياع ملكه وذهب باكيا لأمه شاكيا مصيره فكان ردها له : صفعة . قالت : ابك كالنساء " ملكا " لم تدافع عنه كالرجال .والخوف كل الخوف أن لا تجد الأجيال ما تدافع عنه لأنها بدون .