"كُل المصائبِ مع الايام تَصغر..وهذه المصيبةُ مع الايام تكبر" هكذا أبَّن الشهيد أبو إياد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر..بحيثيات هذه العبارة يكمن كل الكلام عن هَديرِ المفاوضات القائمة الآن..ما يدفعني لقول ذلك ليس موقفا ضد مفهوم المفاوضات أو إعتبارها كخيار غير مُجدي..ولكن التعامل معها وكأنها العصا السحرية..أو أنها بديلُ كُلَ البدائل..ومحاولة الإيهام بأن كل شيء قابل للحل في هذه الظروف..مسألة يجب التوقف عندها..فوسائل الاعلام تتحدث وكأننا إقتربنا من وضع آخر حروفِ الكلام لإتفاق إطارٍ لكل القضايا النهائية..بل الحديث عن جدية "نتنياهو" رئيس الوزراء الاسرائيلي، وإستعداده لتقديم تنازلات مُؤلمة "من طرفه وبعيده عما نريد من طرفنا" توحي للقاريء وكأن حَلْ الصراع باتَ أقربُ من "سارة" ل "نتنياهو". مرة أخرى يتم التعامل مع الجمهور بطريقة فظةٍ وغيرُ مُحترمة..في محاولة يائسة غير واقعية لبث روح السلام الممكن النهائي..وكل ذلك يقوم به على الأخص الطرف الامريكي وبشكل نشط، ضاربا بعرض الحائط كلَّ ما يُمكن أن ينتج من مضاعفات إذا فشلت هذه "الجويلة" من المفاوضات الدائمة..فالمبعوث الامريكي السيد "ميتشل" وهو وللحق نشيط جدا ولديه أمل كبير ويحاول كل جهده..يتحدث عن الاتفاق على الحدود خلال ثلاثة أشهر مع إستمرار التجميد المزعوم للاستيطان خلالها..وعن إتفاق إطار في غضون عام..يتم تطبيقه وفق المعلومات المُسَرّبة إعلاميا خلال عَشرةُ سنوات كحد أدنى. عندما وقع "رابين" رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي تم إغتياله من قبل يهودي متطرف، إتفاق "أوسلو2" قبل نحو خمسة عشرة سنه، حدد بوضوح معنى السلام النهائي الذي يُريد، حيث أُعتبرَ خطابه أمام "الكنيست" الاسرائيلي في تلك الفترة كوصية سياسية لا تزال قائمة.. ف "القدس" تبقى موحدة في إطار الحل الدائم، وما يسمى "الكتل الاستيطانية" ستبقى داخل حدود دولة إسرائيل، ولا عودة لحدود الرابع من حزيران عام 1967، وحدود إسرائيل الامنية هي "غور الاردن"، ولا عودة لللاجئين كحق قابل للتحقيق بقدر ما يجب حله كقضية من قضايا الصراع الاساسية ولكن بعد تفريغ هذا الحق من مفهوم العودة..هذه الوصية تمسك بها الجانب الاسرائيلي في كل جولات المفاوضات التي جرت مع إضافة شرط جديد، وهو الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهودية" لوضع حد نهائي لمفهوم وقرار 194 الاممي من جهة، ومن جهة أخرى لإثبات حق "الحركة الصهيونية" المزعوم والذي إدعته قبل نحو عقد ومائة عام بإعتبار "فلسطين" أرض ودولة لليهود، وهنا فإن موافقتهم على دولة فلسطينية سيأتي أمام العالم أجمع وكأنه كرم من أحفاد أبناء صهيون تجاه السلام العالمي..فهم يتنازلون عن جزء من حقهم وجزء من أرضهم لصالح حل مشكلة الفلسطيني، وباعتراف هذا الفلسطيني بذلك. المغدور "رابين"، ووفق كل المعطيات لم يكن مقتنع بإمكانية التوصل لحلول نهائية مع الجانب الفلسطيني وفقا لشروطه..لذلك بحث عن الحل المرحلي وكان يفكر بإقامة ودعم سلطة فلسطينية تكون قادرة على وقف العنف، وبمفهوم الحل المرحلي البعيد الامد..لم يفكر ب "هدنة" كما تحدثت بعض الاصوات حولها من الجانبين، ولم يفكر بحل نهائي مقابل إنهاء الصراع والمطالبات، فهذا غير ممكن واقعيا..وكل ما كان يبحث عنه هو "تخفيف حدة الصراع"، وقف العنف، بناء الثقة، تأجيل الحل حتى تنضج فكرته لدى الجانب الفلسطيني، إما كأمر واقع، وإما إستمرار الحال كما هو عليه..في "كامب ديفيد" الثانية لم يكن لدى "إيهود باراك" رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ووزير "الجيش" الاسرائيلي حاليا صَبرْ الاب "رابين"، فطرح رزمة الحل بمفهوم الوصية وأكثر..فتفجرت المفاوضات وحدث عنف لم يسبق له مثيل من حيث وحشيته..وفي "أنابوليس" تعامل الثعلب "أولمرت" رئيس الوزراء الاسرائيلي الذاهب بتهم الفساد، مع قلة الصبر لدى القيادة الفلسطينية بطريقة أشعرتهم وكأن الحل على بُعد قَبْضَة..فكان ما كان من فشل لمفهوم الحل الدائم مع الاستعاضه عنه بمفهوم المفاوضات الدائمة، عبر عنها بوضوح رئيس الوفد الفلسطيني للمفاوضات بكتابه "الحياة مفاوضات". عندما تريد إنجاز شيء وبشكل دائم، فلا بد من إستخدام نظرية "التحدي والتجاوز والتحريك" في "أنْسَنَة" الدين التي تحدث عنها البروفيسور الجزائري الراحل "محمد أركون"..نحن تحدينا المفاهيم وطرحنا كل قضايا الحل النهائي على الطاولة، لكننا بقينا في مربع التجاوز..فلم نتجاوزها ولا نستطيع أصلا فِعلَ ذلك.. وعليه فلم نُحركها من مكانها وبقيت عالقة في عقولنا ومناوراتنا وخططنا..المشكلة كانت ولا تزال بواقع موازين القوى، وهذا أكبر من أن يتم تجاوز نقطة فيها إلا إذا أصبحت مُرونة المفاوض الفلسطيني الظاهرة حاليا هي الحدود الدنيا..خاصة مع توفر الغطاء العربي لهذه المرونة..وبعكس ما حدث في "كامب ديفيد" الثانية و"أنابوليس" الاولى بإعتبار ما سيكون. بإستعراض بسيط لواقع الامر، مباديء السلام المُمكن المطروحة حاليا، غير قابلة للتحقيق، فلا يستطيع الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهودية".. ولا يستطيع "نتنياهو" الموافقة على تقسيم البلدة القديمة وتوزيع السيادة فيها بين الجانبين، أما اللاجئين فمسالة غير مطروحة للنقاش بمفهوم حق العودة، بل بمفهوم الحل الممكن القابل للتحقيق من حيث عودة جزء منهم للدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح، المراقبة الحدود والمعابر "إتفاق معبر 2005 نموذج"، المسيطر على أجوائها ومجالها "الكهرومغناطيسي"، والمقيدة بالاتفاقيات الامنية التي لا تسمح لهذه الدولة الدخول حتى كعضو في الجامعة العربية بدون تغيير ميثاق الاخيرة..والسؤال المطروح الآن، هل هذا ممكن؟ بالتأكيد التوصل لحل نهائي وفقا لذلك تَسْتَحيل إمكانيته، فالرئيس "أبو مازن" تحدث بوضوح عن رفضه التنازل في موضوع الحدود واللاجئين، بل هدد بالمغادرة والاستقالة إذا تعرض لضغوط لإجباره على التنازل..في حين مباديء "نتنياهو" الخاصة بمفهومة للسلام لا تَسْتَدعيه لهذا السلام، بل تَسْتَدعي ما لا لنا طاقة به. "رأينا ذلك من قبل" هكذا قال السيد "عمرو موسى" الامين العام للجامعة العربية عن حَفلِ "واشنطن" الاخير..هو يُذكّر هنا بحفلِ "أوسلو"، وحَفل "كامب ديفيد" وحَفل "أنابوليس"..النتيجة أفضت للهاوية.. في الاولى أُستدعيَ المتطرفين "اليهود" وأُغتيل "رابين"، و"باراك" إستدعى العنف بتعنته المزعوم وحَرده..و"أولمرت" بذكاءه إستدعى مفهوم إتفاق "الرَّفْ" ليتغلب على الانقسام الفلسطيني مع العلم أن المطبخ لم يبنى أصلا ليوضع فيه "رَفْ". لقد كتبت حين إنطلق إحتفال "أنابوليس" مقال بعنوان "أوهام أوسلو تستمر في أنابوليس"..واليوم أقول بأن خطة المفاوضات الدائمة بدل الحل الدائم سوف تستمر بين و"اشنطن" و"شرم الشيخ" و"القدس" و"تل أبيب"..أما أذا أردنا المُمْكن بَدل الدائم، فهو بين أيدينا..فلا تبحثوا عن حلولٍ نهائية..ولا تفكروا بإنهاء الصراع والمطالبات..فكروا بعيداً وبتحدٍ جديد..تجاوزوا الدائم لصالح المُمْكن..وحَرّكوه نحو واقعٍ جديد..أُخرجوا من حالة "النستولوجيا" الأوسلوية فلسطينيا، لصالح "البرغماتية" المُمْكنه..ولا مُمْكن غَيرَ مَفهوم "الهُدنة" التي نادى بها المحلل السياسي الاسرائيلي "إيهودا يعاري" كواقعية سياسية وليس كواقعية نظرية..أما إذا أردتم فشل "كلينتون" وفشل "بوش" الإبن، فإستمروا في الحديث عن أوهامِكم..وزِنوا الاشياء وإرفقوا بنا، وعالجوا الامور برفقِ الذي يَبحثُ عن حَلٍ وليس برفقِ السياسيين، وكما قال نبينا، صلى الله عليه وسلم " الرفقُ ما دَخلَ في شيءٍ إلاّ زانه، وما خرجَ من شيءٍ إلاّ شانه".. علينا أن لا نأخذ بنصيحة "نايل" ل "عبده" في رواية "ظل الافعى" للكاتب "يوسف زيدان" " ارفض المرأة تطلبك، واصبر على الارز يستوي".