هذا الشهر نحيي الذكرى الـ 17 لـ "الجبنة السويسرية" المليئة بالثقوب اياها، والتي تشبه على نحو مدهش ذاك الطعام المغري، كثير العناصر الخطيرة على الصحة، الذي حاولوا اطعامه للجمهور – اتفاقات اوسلو. من كل جانب جوهري من الصعب أن نفهم ما الذي حرك من جديد الجهد الدعائي لتبرير اتفاقات اوسلو بالذات في الزمن الحالي. فمن زاوية نظر اسرائيلية هذه خطوة أثبتت فشلها من حيث التفكير السياسي الذي تقوم عليه، وكخطوة خطيرة من حيث النتائج العملية التي تبشر بها. وعليه، فليس واضحا على الاطلاق لماذا يجب الايمان بانه طرأت اليوم تغييرات على الظروف السياسية – الامنية تحسن فرص نجاح المسيرة السياسية هذه بالقياس الى الماضي. وبالعكس، توجد اسباب كثيرة للتشكيك في ذلك: فالقيادة الفلسطينية لا تزال ترفض رفضا باتا الاعتراف باسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي. وهم يصرحون علنا بان هذا الموقف – الذي لن يساوموا عليه ابدا – يأتي للحفاظ على مواصلة المطالبة بحق العودة. وتحقيق هذه المطالبة سيلغي بشكل عملي مكانة اسرائيل كدولة يهودية. التحريض على الكراهية والتشهير باليهود في جهاز التعليم ووسائل الاعلام الفلسطينية يتواصلان دون انقطاع، ومكانة المتطرفين آخذة في التعاظم. وجه الشبه الكبير بين اتفاقات اوسلو – وظروف تطبيقها الفاشل – يشبه محاولات مهندسي "مبادرة جنيف" الدفع الى الامام باتفاق حسب المبادرة السعودية. وكل شكل التفكير هذا، الذي يصر على التصديق ويتجاهل التجربة يذكرني بالقصة التالية: شخص مفعم بالنية الطيبة وبالرؤيا بعيدة النظر قرر ذات يوم بان عالمه سيتحسن كثيرا اذا ما كان حسب التوقعات قادرا على الطيران. وقال لنفسه بحزم "اذا كانت هي قادرة، فأنا أيضا قادر"، وهو يعلو سطح مبنى من خمسة طوابق كي يلقي بنفسه الى السماء. ناشده اصدقاؤه أن يكف عن نيته. وحذره ناصحوه بان خطته تتعارض وقانون الجاذبية ولا تتوافق ونظرية آلية الهواء. وقد حذروه من أن محاولته مؤكدة الفشل وكذا الضرر الجسيم الذي سيلحق به ايضا. ولكن التحذيرات والمناشدات وقعت كلها على اذنين مسدودتين للطائر النشط. وبحركة يد استخف بهذه المخاوف وباولئك المتخوفين. وأعلن، وهو مفعم بالثقة بالنفس "هؤلاء يعانون من تفكير متجمد. فهم ضيقو الافق، غارقون في مفاهيم الامس. اما انا بالمقابل، فأمثل المستقبل. خطتي ستحطم حدود الماضي وستحدث امكانيات جديدة للغد". وعندها القى بنفسه من سطح المبنى الى الفضاء الى أن سقط وتحطم على الارض. وقد تضرر جدا ولكنه نجا من السقطة باعجوبة. وبعد فترة طويلة من الشفاء، بدأ ينزع الضمادات عن جراحه والجبس عن كسوره التي لحقت به جراء فشل مبادرته النبيلة. وعندها توجه لتحليل اسباب عدم نجاحه. بعد فترة تفكير قصيرة بلور استنتاجا قاطعا: المشكلة لم تكن في مبادىء الخطة نفسها بل في التنفيذ. وعليه، كما استنتج يجب الاستعداد لاعادة التجربة، ولكن هذه المرة في ظروف افضل (القفز من مبنى أعلى لزيادة فرص نيل زخم الطيران اللازم لطيرانه). ومرة اخرى بأمل كبير وذاكرة قصيرة، صعد بطلنا بعيد النظر الى سطح مبنى، هذه المرة بارتفاع عشرة طوابق. مرة اخرى تجاهل التحذيرات والمناشدات. ومرة اخرى استخف باقوال النصح. مرة اخرى استعد لالقاء نفسه الى السماء على أمل أن تمنحه نواياه الطيبة وارادته الناصعة القدرة على الطيران قبل أن يتحطم... هذا، إذن، هو التشبيه الادق لاتفاقات اوسلو وباقي المبادرات الشبيهة لها والتي تعرض على الجمهور صبح مساء. كل مبادرة كهذه ليست سوى تكرار يائس لخطوة تشبه اوسلو، خطوة جربت في الماضي، في ظروف مشابهة (بل وواعدة اكثر) وفشلت تماما. وعليه، لا يوجد أي سبب يدعو الى الافتراض بان استمرار الجهود لتحقيقها لن يؤدي الى فشل مشابه – بل وأكبر. مهم التشديد على أن مصدر الاعتراض على مبادرات مثل اتفاقات اوسلو وامثالها لا ينبع من الاعتراض على السلام نفسه او عدم فهم فضائله النظرية. المشكلة هي في ان الشك يقوم على اساس الاحتمالية جدا. فقد سبق أن جربنا. في ضوء تجربة الماضي، فاستمرار العناد لتطبيق مبادرات مثل اوسلو يشبه المراهنة. فبعد كل شيء، التجربة تفيد بان احتمال نجاحها ضعيف وثمن فشلها هائل.