من يسر في شوارع غزة الضيقة جدا، فإنه سيلاحظ بلا شك عادة سيئة تنتشر بكثرة في هذه الشوارع ، وهي لا تتعلق بضيق هذه الشوارع التي امَّحتْ فيها الفواصل بين خطوط السيارات والمشاه وراكبي الدراجات بنوعيها وعربات الخيول والحمير، وهذه الظاهرة ليست اغتصاب ممرات المشاة وتخصيصها للبضائع ، وهذه العادة السيئة ليست كذلك سرقة ممرات المشاة وجعلها كراجا للسيارات، أو قطع الطريق على المشاة، لأن سائقا ودَّ أن يجعل سيارته تنعم بغفوة تحت ظل شجرة باسقة في هدوء وسكينة، أما أصحاب الحق من المُشاة فليسيروا بعيدا في نار الشمس الحارقة! والعادة السيئة التي أقصدها، ليست هي أيضا عادة وضع كراسٍ في وسط الشارع واستضافة الزبائن لغرض إضاعة الوقت والسمر ومراقبة الغادين والغاديات، حتى وإن أدتْ هذه الجلسة إلى تعريض حياة الأطفال السائرين للخطر، لأنهم سيضطرون للسير في وسط الشارع، وإنما هي عادة أكثر خطورة مما سبق ! إنها عادة انتشار البُصاق في الشوارع العامة ، وحتى في الأسواق المكتظة بالمشاة! إنها إشارة خطيرة على مرض اجتماعي مُعدٍ وخطير، وقد انتقلتْ العدوى من الكبار إلى الصغار، وأصبح البُصاق في الشوارع لا يُثير أحدا! بالأمس القريب، بصق أحدهم على قدمي عندما حاولت اجتيازه، فوضعتُ يدي في جيبي، وحاولت أن أعطيه منديلا ورقيا، فاعتبر فعلتي إهانة وتحقيرا ، وأظهر التحدي والاستفزاز ولم يغفر لي خطيئتي إلا عندما نظر في وجهي فرأي أختام تجاعيد الزمن تنطبع فوقه! واضطررت في ثالث يوم العيد أن أشاهد الحديقة التي تتوسط غزة وقد ملأتها الحشود، بحيث يصعب المرور داخلها ، وكأن غزة كلها قد تجمعتْ في هذه الحديقة ، غير أن المنظر المستفِز، هو أكوام المخلفات الورقية والصحون البلاستيكية التي تملأ الشوارع والحديقة ، وما أفزعني في هذا المنظر أن حاويات القمامة المنتشرة بكثرة في الحديقة والشوارع بالقرب من الجالسين والمارين كانت فارغة، وكأن هناك رأيا عاما يقول: لا تساهموا في النظافة ، لأن للنظافة عمالا مختصين بها ، يتقاضون نظير عملهم نقودا وفيرة ، فاتركوا لهم مخلفاتكم إذن ! إن هذا المرض ليس مرضا ثانويا، يَخافُ كُتَّابٌ كثيرون الحديث عنه، خوفا من أن يُقال: إنهم بهذا التعريض يُسيئون إلى سمعة الوطن، وفق المقولة الخطيرة التي يحفظها كثيرون من كتاب السلطان: ألم يبق في الوطن من العيوب سوى هذا العيب؟ فماذا عن الحصار والفقر والقتل والظلم والاضطهاد؟! إنني أعتبر أن الحديث عن الأمراض الاجتماعية الشائعة ، أو المسكوت عنها، أو التي يخاف كثيرون الحديث عنها، مُقدَّمٌ على الحديث في مواضيع التحليلات السياسية، والشؤون الحزبية، فهناك فائضٌ كبير في المقالات والتحليلات التي تعالج القضايا السياسية، وهناك كتائب وعصائب من المحللين وفقهاء السياسة، وفي الوقت نفسه هناك شُحٌّ خطير في معالجة موضوعات أمراضنا المجتمعية الخطيرة ، وعلى رأسها (النظافة). أليس مُستنكرا أن نحمل على عاتقنا –نحن الفلسطينيين- نضالا شريفا طاهرا ضد الظلم والطغيان، بينما نعيش نحن أمراضا اجتماعية سيئة تنتشر بيننا ، وتصيب أطفالنا بعدواها الخطيرة؟! أنا أعتبر مرض البصاق وإلقاء المخلفات في الشوارع من راكبي السيارات والمارين، أخطر بكثير من مرض الإنفلونزات والأمراض الصحية السارية، فالأمراض الصحية يمكن التغلب عليها بأدوية يمكن شراؤها، لكن الأمراض المجتمعية، وعلى رأسها النظافة، لا يمكن علاجها إلا ببرامج ثقافية وتربوية تستغرق عقودا من السنين! أليس عيبا أن يتحول أبناؤنا وأهلنا إلى مصابين ومرضى ؟ يحتاج كل فرد فينا إلى ثلاثة حراس، إلى شرطيٍ يرافقه أينما حلّ وارتحل حتى لا يُخطئ، وإلى عامل نظافة ثانٍ يسير وراءه ليلتقط مخلفاته، وإلى رجل مرور ثالث يُراقب سيره في الشوارع ؟!! إن الدول المُصابة بمثل هذه الأمراض الاجتماعية ، تنفق أكثر من نصف ميزانياتها على(المقعدين) من مواطنيها ، ممن يرون بأنهم كَمٌّ زائدٌ عن الحاجة، وأنهم يسعون لمعاقبة الدولة ، في صورة إهمالهم المقصود ليعاقبوا الحكومة ، حتى ولو كان العقابُ هو إضرارهم بأنفسهم ! وأخيرا حاولتُ أن أعثر على سبب وجيه يُفسِّر سبب انتشار ظاهرة الفئران الكبيرة المقتولة المُلقاة وسط شوارعنا في الصباح، ولماذا يتخلص كثيرون منها بعد اصطيادها في البيوت، ولا يُلقونها في سلات القمامة، بل يرمونها في وسط الشوارع، فوضعتُ احتمالات إجابات ، وكانت تفسيراتي لهذه الظاهرة كما يلي: التفسير الأول: إن من يلقي فأرا ميتا في الشارع العام يود أن يقتله مرة أخرى تحت عجلات السيارات لكي يلتصق بالإسفلت ويصبح جزءا منه، ليردع بني فئران ويمتنعوا عن دخول حرم بيته من جديد ، وهذا التفسير بعيد الاحتمال!! وأما التفسير الثاني وهو محتمل: إن صياد الفأر يود أن يعلن للناس وللمارين في الشارع عن كفاءته في صيد الفئران الكبيرة، وأنه قادرٌ على قتلها شرَّ قِتلة! أما التفسير الثالث وهو المُرجَّح: أن الشوارع في عرف أكثر الناس، مِلكٌ عام، لا يمكن أن يدعي أحدٌ امتلاكها، فإلقاء فأر في الشارع العام حقٌ مشروعٌ لكل المواطنين، وهو يشير إلى أن مَن يلقي الفأر المقتول في الشارع العام، يدعم حقه في ملكيته للشارع، وإلقاء الفأر المقتول دليلٌ على هذه الملكية! يجب أن نتذكر بأن الشوارع والجدران، وطريقة سير المركبات ، وطريقة عرض البضائع، وأبواب المحلات، كلها تُعتبر مرايا للزائرين، يعرفون من خلالها طبيعة المجتمع وآليات عمله، ويحكمون على أهله، بدون عقد أي لقاء معهم! وهذه المرايا والمناظر هي أيضا إشارة إلى خلل خطير في أنظمة التربية والتعليم في المجتمع.