القدس المحتلة / خلال زيارته الاخيرة الى تركيا حذر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون من ان قطاع غزة "لا يمكن السماح ببقائه معسكر اعتقال". وجاء وصف كاميرون لمعسكر الاعتقال ليلقى صدى بين النقاد الذين يلمحون الى اسوأ ما قامت به المانيا النازية. واثار ذلك ايضا ترددات بين بعض المدافعين ضد اختناق غزة. ونشرت مجلة "فورين بوليسي" (السياسة الخارجية) الاميركية مقالا لمدير الابحاث والنشر في مؤسسة الشرق الاوسط للسلام جيفري أرونصون قال فيه ان التركيز الصحفي المخزي من قبل اولئك الذين يغلفون بالاكاذيب الالم والمعاناة اللذين يتسبب بهما الحصار بظهور اماكن تسوق جديدة في غزة وللطعام الفاخر في مطاعم القطاع هو مصدر اثارة بصفة خاصة. وما الجهود الذي يبذلها الغزيون المحاصرون لايجاد ما يماثل الحياة الطبيعية، إلا شهادة دائمة على انتصار افضل مشاعر روح الانسان على اولئك الذين يسعون الى تحطيمها. ولقد كشفت الوفيات التي حدثت في أسطول الحرية الذي ابحر من تركيا عن الاهمال المخزي للمجتمع الدبلوماسي الدولي في هذه الكارثة المحبوكة وفتحت عيني واشنطن للمطالبة بتغيير ولو بسيط لنظام الحدود الوحشي. رغم ان هذا التغيير ليس اكثر من نصف الاجراءات المطلوبة ولا يوفر حتى لمحة لانهاء نظام العقوبة الجماعية التي اجبر الغزيون على تحملها. وقد اقترح ليبرمان (وزير خارجية اسرائيل) حلا لا غالب ولا مغلوب – باقامة حدود مفتوحة بين غزة والعالم الخارجي وانهاء مسؤوليات اسرائيل كدولة محتلة في غزة. ولربما لكون صاحب الفكرة نشط سياسيا خارج اسرائيل ولان موطنه السابق كان خلف ما اطلق عليه الستار الحديدي، فان الجميع بدءا من ليدي أشتون (رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي) و(الرئيس المصري) حسني مبارك عارضا الفكرة. الا ان اصل هذا الخيار يعود في الواقع الى أرييل شارون الذي اوجد قراره اخلاء المستوطنات والقوات الاسرائيلية عن غزة اوضاعا امام الفلسطينيين، وللمرة الاولى في تاريخهم، لتذوق امكانية ممارسة السيادة على جزء من فلسطين على الاقل. ومن المؤكد انه لا شارون ولا ليبرمان كان يُتوقع منهما ان يتحركا نتيجة الاهتمام بالمصالح الفلسطينية. ويمكننا ان نستعير من القامون الدبلوماسي الحالي، انهما لا يشعران باي مصلحة في "تقوية" غزة او الفلسطينيين. وبالنسبة لهم وللمجتمع الدولي فان رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس وفريقه في رام الله يمثلون الشمس الفلسطينية التي تدور حولها دبلوماسيتهم. اما اسرائيل و"حماس" فانهما مشغولان في الرقص على انغام مختلفة تماما في غزة، يفضل كبار رجال السياسة الواقعية إغفالها. غير ان سوء الفهم المتكرر من جانب المجتمع الدولي يجب الا يخفي الفوائد الحقيقية، السياسة منها والعملية، التي يعد بها انتهاء السيطرة الاسرائيلية الفعلية على غزة، وهو ما يعتبر مستوى مقبولا عالميا على اسرائيل ان تنفذه. لقد اجلى شارون جميع المستوطنات الاسرائيلية المدنية والمستوطنين من قطاع غزة كما ازال كل القوات العسكرية الاسرائيلية التي تتخذ من تلك المنطقة مقار دائمة لها. فقد كان يريد ان بمسك بزمام المبادرة الدبلوماسية من يدي واشنطن ويواجه غزة كدولة عدوة بدلا من كونها تحت وصايتها. ومن اجل ذلك كان مستعدا لان يدفع ثمنا باهظا – الجلاء عن غزة لـ"جيش" حماس واحلال قوة الردع بدلا من الاحتلال. وقد وجدت قيادة "حماس" بما يعود بالمصلحة عليها فرصة في قرار شارون على عكس حركة "فتح" الحاكمة، التي لم تصدق ان شارون من بين الناس جميعا يمكنه التخلي عن غزة ومستوطنيه فيها. غير ان فك الارتباط الذي قرره شارون لم يكن كاملا. ومثلما اشارت عليه وزارة خارجيته، فانه طالما ان اسرائيل بقيت تسيطر فعلا على اتصال غزة مع العالم، فان بامكان اسرائيل ان تدعي انتهاء الاحتلال والتخلي عن مسؤولياتها الدولية. غير ان ليبرمان يقتر الان ان اسرائيل على استعداد لاتخاذ الخطوة التالية، وتحدى المجتمع الدولي لتقديم العون الى اسرائيل والى الفلسطينيين لتحقيق هذا الهدف. والاقتراح يقضي بوضع نظام حدودي يزيل عن اسرائيل السيطرة الفاعلة على خط حياة غزة الاقتصادي ويحقق المستويات المقبولة دوليا للتصدير والاستيراد والانتقال، في الوقت الذي يحقق لاسرائيل متطلباتها الامنية. ويمكن تحقيق هذا البرنامج، حيث ان الدعم الدولي لهذا الخيار سيوفر الحد الادنى من الشروط لاعادة انعاش الاقتصاد الفلسطيني وتنشيط مجتمع لم يختزن في ذاكرته اكثر من الحرمان وغياب الفرص. ولا بد لمفاهيم انهاء الاحتلال وازالة المستوطنات واجلاء الجنود وقيام منطقة مجاورة تحت سيطرة السيادة الفلسطينية والحق في الاتصال مع العالم، لا بد ان تعم الاراضي المحتلة، الضفة الغربية وغزة على السواء. واذا لم يتمكن الاسرائيليون والفلسطينيون بمعونة دولية من تحقيق هذا الهدف، فانه ليس هناك من سبب يحول دون تنفيذه في غزة او في اي مكان اخر حيثما توجد فرصة له. لقد الزمت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في العام 1974 تجاه "اقامة سلطة وطنية مناضلة مستقلة لابناء الشعب في كل جزء من الاراضي الفلسطينية التي تحررها" – وهذا يعني اقام سيادة فلسطينية حيثما تسمح الظروف بذلك. ومن الغرب ان القيادة الحالية اليوم تعارض اي تقليل في مسؤولية اسرائيل في غزة، لانها لا تجد في ذلك الا منفعة لـ"حماس"- وهو اقتراح لدى اسرائيل رغبة قوية في القبول به. اما "حماس" فانها غير مستعدة من جانبها لان تصفق لاي فكرة اسرائيلية. واذا كنا نسترشد بفك الارتباط، فان قيادة "حماس" ستنتهز الفرصة في اي خطوة اسرائيلية لدعم وتوزيع سيادتها. وبالنسبة للمجتمع الدولي، فان استعداد "حماس" للافادة من مثل هذه الخطوة الاسرائيلية كاف لمعارضته. الا انه ليس هناك من سبب للاعتقاد ان دولة فلسطينية حرة مستقلة في قطاع غزة سيعرض للخطر احتمالات امتداد المبادئ ذاتها الى الضفة الغربية والقدس الشرقية او يسيء الى التغيير في المصالحة الفلسطينية. ولا شك ان اقامة دولة فلسطينية ذات سيادة لا يمكن الا ان يسهم ايجابيا على الساحة الفلسطينية الداخلية والدبلوماسية الدولية.