غزة / تساءل الصحافي التلفزيوني البريطاني تيم سبستيان عما يمكن ان يحدث اذا جمعنا فريقين فلسطينيين متناحرين في غرفة واحدة، وجعلنا ستة من الحرس الشخصي يقفون خارجها، ووفرنا للفريقين الطعام والشراب، وتركناهما لساعتين. ولا يلبث ان يجيب عن تساؤله بنفسه فيقول انك ستذهل مما توصلا الى الاتفاق عليه- انه لا شيء على الاطلاق. ويمضي سبستيان، الذي يرأس ندوة مداولات الدوحة، في مقاله بصحيفة "ذي نيويورك تايمز" الاميركية فيقول: "في لحظة خاطفة، بدا ان اقصر الخطوات الى الامام على وشك ان تحدث. فمن عالم الغيب ورد اقتراح يفيد ان من المحتمل، مجرد احتمال، ان يجلس الفريقان المنهكان من الخلاف بينهما في وقت ما ومكان ما، ومن ثم يستظلان تحت شجرة من حر شمس منتصف النهار، ويبدآ في تحليل القضية بمجملها. "وضع احد مسؤولي "فتح" في الندوة ورقة على طاولة الطعام، وأمسك قلما بين اصابعه وقال "اكتب نص اتفاقية". وقد حبسنا انفاسنا، الا ان الفكرة تلاشت بالسرعة التي وصلت فيها. "لعل من الغباء ان يأمل المرء بوجود لمحة من ضوء. الا ان الحضور هم من كبار الشخصيات الفلسطينية الذين لا رقيب على اقوالهم. وقد احضر نبيل شعث، وهو احد المفاوضين الفلسطينيين المتمرسين، معه عبد الله عبد الله، احد كبار الناطقين باسم الحركة. وفي المقابل اعدت "حماس" فريقا على اعلى المستويات – يضم عضو المكتب السياسي أسامه حمدان وأحد كبار مسؤوليها في دمشق محمد نزال. "حضروا جميعا الى الدوحة لحضور ندوة خاصة من مداولات الدوحة، المنصة المستقلة الوحيدة لحرية الرأي في العالم العربي، التي تتناول "بي بي سي" انباءها بانتظام. والغرض هو الكشف عن خلافاتهما امام جمهور عربي بشكل رئيسي وفتح الابواب امام السبيل الى الامام. "قد يكون الوقت غير ملائم للتوصل الى اي نوع من الاتفاق. ومعظم الامر يعود الى هذه المجال، فإما ان هناك الكثير من الاشخاص او القليل جدا منهم. قد يكون هناك الكثير من الضوء او القليل جدا منه. وفي كل الاحوال هناك دوما طرف آخر لتوجيه اللوم اليه. "اسرائيل بالطبع، مصر، الولايات المتحدة، اوروبا. من يدري؟ النقاش ينتقل من جهةالى اخرى بلا هوادة. "وبعد ساعتين، شعرت كما لو انني اشهد عملية جراحية ذات طبيعة غامضة. اذ تجمع الفريق الطبي حول مريض وبدأوا ببضع جراحات، وتمتموا بهمهة حول تخمين التشخيص، ثم خاطوا الجراح مرة اخرى من دون ان يقول احد منهم شيئا او ان يكون قد ادرك ما اذا كان المريض في حالة افضل او اسوأ. "هكذا يدور الحوار هذه الايام في الشرق الاوسط. "جمل طنانة واقوال تصدر وتختفي. ‘كلنا اخوة’. يصعب عليهم ان يذكروا الـ1400 فلسطيني او ما يقارب ذلك العدد شاركوا هم في مقتلهم والمئات ممن وضعوهم في السجون وعذبوهم او اساؤوا اليهم. "تقول "حماس" لـ"فتح": انتم تتعانقون مع الاسرائيليين. "وتقول "حماس" لكل من هب ودب: لا بد من تنظيم المقاومة. "اما "فتح" فتقول: ‘نبقى متحدين’. وهو ما يأمل به البعض. "كان بامكاني ونحن جلوس هناك ان استشعر عدم وجود احساس بالاهمية لدى اي من الطرفين لانهاء صراعهما الدموي. لعلهم فقدوا مفهوم زمن السلام بعد سنوات القتال وفشل التسويات. وأضحت العملة الوحيدة التي يعرفونها في هذه المنطقة هي المعاناة. فما الضرر في يوم اخر من الشقاء في غزة بعد 7 آلاف عام من الفقر؟ "ولا استطيع الا ان استعيد فصلا من الحياة في قطاع غزة نقله لي احدهم قبل بضع سنوات. اذ روى لي حكاية عربة يجرها حمار اصطدمت بها سيارة مرسيدس مسرعة في طرقات غزة الضيقة، وقد اصر سائق السيارة على ضرورة ان يقوم صاحب العربة بتسديد تكاليف تصليح سيارته. وبالطبع رفض الرجل، ومرت اسابيع وتفاعلت القضية برمتها لترقى الى استعمال السلاح. قتل عدد من الاشخاص واصيب اخرون. كل ذلك من اجل دعامة سيارة انخلعت. ولا يمكنك ان تجد حياة ارخص من هذا الوضع. كان النقاش حدثاً حافلاً بالكلام الحاد، واتسم بخيبة امل الجمهور بشكل واضحتجاه ما استمعوا اليه، وكلل بالتصويت بعد الثقة في القيادة الفلسطينية بنسبة 89 في المئة. ولكن اذا كان أي من المشاركين في النقاش قد امتعض، فانهم لم يظهروا أي دلائل امتعاض خلال العشاء. ولم يبد أي منهم ميالاً الى قبول دعوة الجمهور الحادة لهم للتنحي. وليس هؤلاء بالطبع الوحيدين الين ينبغي ان يتزحزحوا. ذلك ان مسرح الشرق الاوسط غاص بلاعبين يؤدون ادواراً سيئة. ومن امثال هؤلاء وزير خارجية ايرلندا مايكل مارتن الحسن النية الذي كتب على هذه الصفحات قبل ايام قليلة عن عدم امكان القبول بالحصار على غزة، لكنه غفل عن ذكر كيف جاء الحصار الى هناك. كانت كلمة "اسرائيل" غائبة بصورة كلية تقريباً عن مقاله، ما ترك غي العارفين بالامور ليستنتجوا ان من المحتمل ان الحصار حصل من تلقاء ذاته. ان هذه المأساة الانسانية القاتلة فيها من اللاعبين الدوليين عدد اكثر مما ينبغي. وهناك اجندات كثيرة متضاربة.، كما ان هناك الكثير من الـ"انا" وقدراً كبيراً من المواقف التي لا تقدم أي شيء للشعب الفلسطيني-الذي هو عزيز على قلوبنا جميعاً في ما يبدو. يبدو ان ما يسمى الرباعية (الدولية) لم تكن قادرة على عزف أي لحن جديد لسنوات عدة. والدول العربية ما فتئت تعلن الحاجة الى صفقة سلام، لكنك تسمع في اروقة الجامعة العربية في القاهرة تمتمات بان الفلسطينيين ربما "لم يعودوا يستحقون" (بذل جهود من اجلهم) بعد الآن. لدقيقة او اثنتين بدا ان اميركا تعرض كسرة جديدة ، لكن اصرار الرئيس (الاميركي باراك) اوباما بعدئذ على تجميد للمستوطنات داس عليه (رئيس الوزراء الاسرائيلي) بنيامين نتنياهو. ونظر العرب واستنتجوا ان الامور كلها تجري كما هو معتاد. الغائب الكبير عن العشاء: الشعب الفلسطيني – الذي بالكاد يذكره أي احد. اكثر الللمات اثارة للحزن في تلك الليلة: "نحن الجيل لجديد" (حماس). كلفة العشاء: فرصة اخرى ضيعت. وخلال احتساء القهوة وجدت نفسي في استراحة قصيرة مرعبة مع نبيل شعث، تحدثا فيها عن مطاعم جديدة في لندن. وعندما اعود بنظري الى ذلك الحديث اجد انه لم يكن اكثر اثارة للسخرية من أي شيء آخر قيل في تلك الليلة.