الحملة الصهيونية التي تواصلها وزارة الخارجية الإسرائيلية وسفاراتها في العالم بالتعاون مع المنظمات الصهيونية داخل الجامعات والمعاهد الأكاديمية وخارجها وتستهدف اللجان والعناصر المشرفة على تنظيم " أسبوع الابارتهاييد الإسرائيلي " في جامعات أوروبا وأمريكا الشمالية ، واعتبارهم إما " متطرفون " في مواقفهم أو" مخدوعون " بالرواية الفلسطينية والعربية ! إن هذه الحملة الإسرائيلية، لها دلالات وعناصر متعددة يستوجب رصدها ووضعها في سياق عام ، دون التهويل من شان الظاهرة او التقليل من وزنها وحركتها وما يمكن أن تنتجه مستقبلاً. فماذا يعني أن يقوم العشرات من اللجان والمجموعات النقابية والطلابية ولجان التضامن مع الشعب الفلسطيني بتنظيم " أسبوع الابارتهاييد الإسرائيلي " في تظاهرة سياسية وإعلامية مميزة شملت تقريبا 45 دولة ومدينة عالمية في أوروبا وأمريكا الشمالية ؟ هذا الجهد التضامني المشترك كان قد بدأ عشية مؤتمر ديربن الأول في جنوب أفريقيا ، وفي الجامعات الكندية والأمريكية ، وامتد لاحقاً إلى العشرات من الجامعات والمعاهد والمواقع الأكاديمية في العالم. وجاء تنظيم " أسبوع الابارتهاييد الإسرائيلي " هذا العام مصاحبا بشعار اخر يقلق الدولة الإسرائيلية وهو الدعوة إلى مقاطعة " إسرائيل " وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها وهو ما يعرف اختصارا باللغة الانجليزية ( بي دي اس) Boycott, Divestment, and Sanctions ( BDS) من الطبيعي أن تستعر حمى اللوبي الصهيوني وأنصاره في الغرب، لكن هذه المرة من موقع المرتبك والضعيف وليس من موقع الواثق والقوي. انه منطق من يريد تبرير وحشيته ويخفي جرائمه تحت حجج واهية وفارغة سقطت كلها ولم تعد مقبولة لدى قطاعات اجتماعية واسعة في المجتمعات الأوروبية والأمريكية وغيرها. فالعوامل التي تحرك سياسة أنصار " إسرائيل " في أوروبا وأمريكا الشمالية أصبحت تتجاوز الاحتجاج المتمسكن والمدعى الذي تعودنا عليه سابقا. وما ارتكبته آلة الحرب الصهيونية من جرائم وآخرها الحرب العدوانية الصهيونية على قطاع غزة تركت شعورا متزايدا بالرفض والازدراء لهذه " الدولة " وخلفت شعورا بالتقزز عبرت عنه شرائح وقطاعات طلابية ونقابية وأكاديمية راحت تسال عن (طبيعة هذه الدولة الاستيطانية ) وتكتشفها بكونها ضرورة استعمارية غربية تحققت بالقوة والإرهاب والحروب في منتصف القرن الماضي من خلال عملية التهجير والاستيطان والإبادة وبدعم لا محدود من قوى الهيمنة الغربية. أكثر من ذلك : بدأت تثار أسئلة كثيرة في جامعات مرموقة مثل " هارفرد " و " ييل " و " بيركلي " حول الحق التاريخي والشرعي لوجود هذه الدولة العنصرية ، وتاريخ المشروع الصهيوني المرتبط دائما بدور وظيفي ، وشريك حيوي ومتقدم وجاهز ، لخدمة الامبريالية الامريكية على وجه الخصوص وتنفيذ وتسهيل مخططاتها في المنطقة والإقليم. هذا الأمر البديهي ، بالنسبة للجماهير العربية ، كان بعيد التصديق لدى شرائح شعبية واسعة ( ليس الدولة بالضرورة ) بدأت تدرك تدريجيا موقع ومكانة " إسرائيل " في الإستراتيجية الأمريكية، ولماذا تكون هذه الدولة ـ البقرة ـ المقدسة الوحيدة خارج حدود النقد والمحاسبة؟ ومع ازدياد الوحشية الإسرائيلية، لم يعد بالإمكان ممارسة تلك التهمة الجاهزة واجترارها اليومي ونقصد تهمة معاداة السامية ضد كل من يجرؤ على نقد السياسة الإسرائيلية. يعمل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية على تعزيز دوره في مواقع عدة ويعتبرها بمثابة الثالوث المحرم على الشعب الفلسطيني والقوى التي تناصر حقوقه الوطنية المشروعة، وهي : الجامعات والنقابات والكنائس. فهذه المواقع الثلاثة كانت قلاع رئيسية وآمنة للحركة الصهيونية ، ولا تزال في غالبيتها الساحقة ، ولكن اتساع المشاركة القاعدية لدى شرائح أكاديمية ونقابية ودينية وطلابية في الحملة لمقاطعة " إسرائيل " وسحب الاستثمارات والمطالبة بفرض العقوبات عليها ، وكذلك المشاركة في أسبوع النضال ضد " الابارتهاييد الإسرائيلي" قد اصاب المؤسسة السياسية الإسرائيلية بالهلع الحقيقي ، خاصة بعد دخول نقابات وهيئات وشخصيات مرموقة على خط المقاطعة الأكاديمية والثقافية لمؤسسات صهيونية ( رسمية وغيرها ) ، وهذا يعني ، من منظور صهيوني على الأقل ، اختراق فلسطيني وعربي لتجمعات ومواقع حساسة بالنسبة للحركة الصهيونية ، وبداية تفسخ للفهم السائد والمهيمن في النظرة إلى " إسرائيل " باعتبارها ضحية دائمة للإرهاب الفلسطيني والعربي والإسلامي! يتهاوى المنطق الصهيوني التقليدي أكثر كلما وجد نفسه وجهاً إلى وجه مع عناصر وقوى يهودية تناهض الصهيونية وتعتبر " اسرئيل " مقبرة لليهود والعرب معا وهي قوى تقود جهود كثيرة في إطار حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني وتشارك بفاعلية في أسبوع الابارتهاييد الإسرائيلي . ويتورط من يدافع عن " اسرئيل " أكثر كلما وجد نفسه أمام تظاهرات ومؤتمرات تقودها قوى سياسية وشعبية في جنوب أفريقيا. فلا يستطيع اللوبي الصهيوني أن يتحدى المناضل القس من جنوب أفريقيا " ديزموند تيتو " مثلا ويعتبره "متطرفا " حين يعبر هذا الأخير عن مشاعره ازاء ما يجري في فلسطين المحتلة بالقول الصريح " انه أسوأ من أي واقع رايته في حياتي"! لا تكترث " اسرائيل " لمواقف القوى الشعبية في جنوب إفريقيا ودول الجنوب الفقير في العالم، فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي دعمت نظام الفصل العنصري في السر والعلن ، وحرضت الكثير من الدول لكسر الحصار الدولي الذي فرض على نظام الفصل العنصري، لكن ما يثير حفيظة الحركة الصهيونية هو الدور المميز الذي قامت به الجامعات والنقابات والكنائس الأمريكية والأوروبية في حملة المقاطعة الشعبية والشاملة لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ، وهو سيناريو لا تريد "اسرائيل " أن يتكرر أو أن يرى النور مرة أخرى. أن تصل الأمور إلى الحد الذي يصطدم فيه اللوبي الصهيوني مع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والذي اختار عنواناً لكتابه الأخير " إسرائيل ، فلسطين : سلام أم فصل عنصري؟ " ويستخدم كارتر تعبير " الابارتهاييد " في توصيفه لما هو قائم من سياسات ، ولو بشكل موارب ومخفف . هذا الأمر ، وبقدر ما يجب أن لا يثير في رؤوسنا الوهم والتوقعات العالية، بقدر ما يعبر ويدلل على أن القاعدة الشعبية أو " العوام " في الغرب ، قد وصلوا بدورهم إلى ما هو ابعد وربما اخطر مما عبر عنه الرئيس كارتر! إن الرواية الصهيونية بدأت تتصدع بفعل المقاومة الشعبية الفلسطينية منذ العام 1987 وتحديداً مع انطلاق الانتفاضة الشعبية الكبرى ، وبفعل ودور المقاومة الباسلة في لبنان والعراق وفلسطين ، وهذا التصدع يعكسه في الواقع اتساع رقعة وتأثير المشاركة في حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني ، وهي حركة أممية في الواقع تحتضن آلاف من النشطاء والمئات من القوى والأحزاب والجمعيات تتوزع على أطياف كثيرة ومتعددة ، قد تختلف في الكثير من الشعارات ، لكنها تجمع كلها على رفض الاحتلال والعنصرية والرضوخ لسياسة الأمر الواقع. * كاتب وناشط عربي