إقليم أرض الصومال… والأطماع الإسرائيلية ..مصطفى إبراهيم

السبت 27 ديسمبر 2025 01:34 م / بتوقيت القدس +2GMT
إقليم أرض الصومال… والأطماع الإسرائيلية ..مصطفى إبراهيم



أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفضه الاعتراف باستقلال إقليم أرض الصومال (صوماليلاند)، وذلك بعد يوم من إعلان إسرائيل اعترافها الرسمي بالإقليم الانفصالي عن جمهورية الصومال. وجاء موقف ترامب مقتضباً ومشحوناً بالاستخفاف، حين أجاب بـ“لا” على سؤال لصحيفة نيويورك بوست عمّا إذا كان سيحذو حذو رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مضيفاً بسخرية: “هل يعرف أحد أصلاً ما هي أرض الصومال؟".

ورغم هذا الرفض، لم يُغلق ترامب الباب تماماً، إذ لم يبدِ موقفاً حاسماً من العرض الذي قدّمته سلطات الإقليم لإنشاء قاعدة بحرية أميركية عند مدخل خليج عدن، مكتفياً بالقول إن “كل شيء قيد الدراسة”. وهو تصريح يعكس المقاربة الأميركية التقليدية: تجنّب الاعتراف السياسي، مع إبقاء المصالح العسكرية والاستراتيجية مفتوحة.

هذا التردد الأميركي يتناقض مع الحماسة الإسرائيلية الواضحة. فقد أعلن نتنياهو، يوم الجمعة، الاعتراف الرسمي بـ“جمهورية أرض الصومال” دولةً مستقلة وذات سيادة، عقب توقيع وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر ورئيس الإقليم إعلانًا مشتركاً، قُدِّم في إطار ما سُمّي “روح اتفاقيات أبراهام”، في محاولة لإضفاء شرعية سياسية على خطوة أحادية تتجاوز القانون الدولي.

في المقابل، جدّدت الحكومة الصومالية رفضها القاطع لأي اعتراف بإقليم أرض الصومال، مؤكدة أنه جزء لا يتجزأ من أراضي جمهورية الصومال الفيدرالية، وأن أي مساس بوحدتها يشكّل خرقاً خطيراً للقانون الدولي. وأدانت وزارة الخارجية الفلسطينية الاعتراف الإسرائيلي، محذّرة من توظيفه ضمن سيناريوهات تهجير الفلسطينيين من غزة، ومعتبرةً المساس بوحدة الصومال جزءًا من سياسات التفكيك الإسرائيلية في الإقليم.

كما أدانت مصر وتركيا الخطوة الإسرائيلية، محذّرتين من أنها تمثّل سابقة خطيرة وتهديداً مباشراً  لأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وما يحمله ذلك من تداعيات على أمن اليمن ومصر والمنطقة بأسرها.

لا أحد يجهل الجحيم الذي يُدعى الصومال، لكن قلة قليلة تعرف كياناً يُسمى “أرض الصومال”. فهذا الإقليم يُعد حالة نادرة وملتبسة في تاريخ العلاقات الدولية. ففي القرن التاسع عشر، قُسّمت الأراضي الصومالية بين الصومال البريطاني (أرض الصومال) والصومال الإيطالي. وفي عام 1960، نال الكيانان استقلالهما، ثم اتفقا على الاندماج في دولة واحدة.

غير أن هذا الاتحاد فشل سريعاً. فقد عانت أرض الصومال من التهميش والإقصاء في ظل حكم الرئيس محمد سياد بري منذ عام 1969، وشهدت تمردات دموية انتهت بعشرات آلاف القتلى. ومع انهيار النظام عام 1991، ودخول الصومال في حرب أهلية مستمرة حتى اليوم، أعلنت أرض الصومال من جانب واحد استقلالها، مستفيدة من الفراغ السياسي والفوضى الشاملة، في وقت لم تكن فيه دولة صومالية فاعلة حتى للاعتراض.

من الناحية العملية، تستوفي أرض الصومال معظم معايير الدولة: حكومة، وحدود، عملة، جيش، ومؤسسات. وهي، مقارنة ببقية الصومال، أكثر استقراراً، ولم تشهد انقلابات عسكرية، وتُقدَّم غالباً كنموذج “ديمقراطي” نسبياً. كما تقيم علاقات شبه دبلوماسية مع نحو 32 دولة، وتسيّر رحلات جوية مباشرة مع إثيوبيا ودبي.

لكن رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود، لم تحصل على اعتراف دولي، ولا تتمتع بعضوية الأمم المتحدة. ووفق القانون الدولي، ما تزال تُعتبر جزءاً من الأراضي السيادية للصومال. ولا تعود أسباب الرفض الدولي فقط إلى وضعها القانوني، بل إلى المخاوف من فتح “صندوق باندورا” في أفريقيا، حيث قد تطالب عشرات الجماعات العرقية والمناطق الحدودية بالانفصال في دول تعاني أصلاً من هشاشة الدولة المركزية.

اقتصادياً، تُعد أرض الصومال كياناً فقيراً للغاية. يعتمد نحو ثلث ناتجها المحلي على تحويلات المغتربين في دول الخليج، ولا تمتلك بنكاً مركزياً معترفاً به، ولا ترتبط بنظام “سويفت”، ولا تستطيع طلب دعم مباشر من البنك الدولي. البنية التحتية شبه معدومة، والاستثمارات الكبرى تمثّل مخاطرة عالية، فيما يعتمد السكان إلى حد كبير على المساعدات والمنظمات الخيرية.

لكن ما يمنح هذا الإقليم أهميته الحقيقية هو الجغرافيا. فهو يمتلك ساحلاً طويلاً على خليج عدن، أحد أهم الممرات البحرية في العالم. وتتميّز مياهه بقدر من الاستقرار مقارنة بسواحل الصومال الأخرى التي عانت من القرصنة. هذه الميزة جعلته محط اهتمام قوى دولية عدة، من روسيا إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن شركات نفطية قدّرت وجود احتياطات ضخمة في المنطقة.

الاندفاع الإسرائيلي نحو الاعتراف بأرض الصومال لا يمكن فصله عن استراتيجية أوسع في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. إسرائيل تسعى منذ سنوات إلى توسيع نفوذها العسكري والأمني، وتأمين خطوط الملاحة، ومراقبة مضيق باب المندب. الاعتراف بالإقليم يمنحها موطئ قدم سياسي وأمني، وربما عسكري، خارج أي إجماع دولي.

الأخطر أن هذا الاعتراف يتقاطع مع سيناريوهات إسرائيلية طُرحت خلال حرب الابادة، تتعلق بتهجير الفلسطينيين من القطاع. وقد جرى تداول اسم أرض الصومال كإحدى الوجهات المحتملة، في إطار مشاريع تفريغ غزة من سكانها، ما يضفي بعداً استعمارياً ووظيفياً بالغ الخطورة على الخطوة الإسرائيلية.

منذ أكثر من ثلاثة عقود، فشلت الدول العربية في بلورة موقف موحّد لدعم وحدة الصومال واستقراره ضمن إطار جامعة الدول العربية. بل إن بعض الدول العربية ذهبت إلى الاستثمار أو الانفتاح على أرض الصومال بمعزل عن الحكومة المركزية، متجاهلة المخاطر الاستراتيجية لذلك على الأمن القومي العربي، وعلى أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال ليس حدثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة إعادة رسم الخرائط وتفكيك الإقليم وفق مصالح القوى الكبرى، في ظل غياب عربي مزمن في حماية وحدة الصومال. وهو ما يضع المنطقة أمام مرحلة جديدة من الفوضى، تُستخدم فيها الكيانات الهشّة أدواتٍ في مشاريع الهيمنة وتغيير الجغرافيا السياسية.