إذا تأكّدت الأخبار بأنّ البيت الأبيض قد اتخذ قراره بإلغاء الموعد بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، على عكس ما كان قد أعلنه مكتب الأخير، فإنّ إصلاح ذات البين، بين الرجلين أصبح صعباً إلّا بخضوعه للشروط الأميركية الجديدة في رؤية مستقبل الإقليم.
هناك ثلاث قضايا كبيرة، وهناك وثيقة واستطلاع رأي جديد سيتحوّل إلى ورقة مساومة كبيرة.
الأولى، هي الخلاف الكبير على الدور التركي.
كان نتنياهو قد أحرق أوراقه كلّها في لحظة تصوّر فيها أن ترامب لن يتمسّك بالدور التركي طالما أنّ أحمد الشرع «الجولاني» جاهز لكل أنواع الخنوع، وأن «تحرير» سورية من عقوبات «قيصر» هو موضع الوفاق والتوافق، وهو «الإجماع» الفصائلي الأكبر والأهمّ وليس تحرير الجولان.
أمّا قضية الأكراد، والشمال السوري فهناك ما يشبه الإجماع على تأجيل البتّ بالمسألتين بعد التفاهم مع أميركا عليهما.
نتنياهو أحرق أوراقه حول الدور التركي في لحظة «تهوّر» من لحظات تهوّراته الأخيرة، ويبدو أنه «استند» إلى معلوماته الخاصة في تقدير الموقف الحقيقي لترامب حول الدور التركي في سورية، وفي الإقليم، وذلك لأن نتنياهو ما زال يعتقد أن مكانة كيانه ودوره الوظيفي ما زالا على حالهما، وأن أحداً لا يمكنه مزاحمته على الإقليم، ولو جزئياً.
تبيّن لنتنياهو فيما بعد أن ترامب يتمسّك بالدور التركي في ترتيبات المرحلة الثانية في قطاع غزّة لأسباب تتعلّق بالعلاقة المستقبلية مع حركة حماس، وفي مواجهة «الاحتكار» المصري في الإشراف على الترتيبات «اللوجيستية» للمرحلة الثانية، وبهدف الحصول من تركيا على تنازلات جديدة في سورية.
باختصار، ترامب يريد شراكة تركية مصرية، ونتنياهو لم يكن على علم بهذا التوجّه، وقد شعر بأنه قد خُدع من أحد.
الثانية، هي سلاح حركة حماس.
واضح أن لا أحد يتحدّث عن سحب سلاح «حماس» سوى نتنياهو، ولم يكتشف أنه بقي وحده في «فناء البيت» بعدما انفضّ الجميع لمناقشة اقتراحات أخرى من قبيل «التجميع» أو التخزين، أو من قبيل نوع السلاح وتصنيفه ما أفقد نتنياهو توازنه من طلبات ترامب برؤية مستجدّات المواقف الأميركية.
الثالثة، هي لبنان.
التهديد بالحرب تحوّل إلى «عملية» جوّية محتملة، ولا بدّ أن تكون مدروسة ومحدودة في الزمان والمكان، ولا يجوز أن تحرج أهل الحكم في لبنان، وأن يتمّ تجنّب المدنيين ما أمكن ذلك.
إذا كان حقاً هذا هو الموقف الأميركي من «الحرب» التي كان يهدّد بها نتنياهو فهذا يعني أن مكانته لدى الإدارة الأميركية باتت مزرية مقارنة مع أيّ فترة سابقة.
هذه هي القضايا التي «عكّرت» صفو الموعد والزيارة وجدول الأعمال والمواعيد.
قد يُعاد إصلاح الأمر، بما في ذلك حفظ ماء الوجه لنتنياهو، وقد يُعاد التأكيد الأميركي على بعض «الجمل والألفاظ» المحبّبة إلى قلب نتنياهو، لكن الأمر أبعد من ذلك.
الإدارة الأميركية التي تراقب كل صغيرة وكبيرة في دولة الاحتلال، وتتابع عن كثب كلّ اتجاهات الرأي فيها، وهي على تماس مباشر مع آلاف الشخصيات من كل الاتجاهات والتوجّهات باتت على قناعة أن «وثيقة الـ600» شخصية من كبار العسكريين السابقين ليست مجرّد وثيقة احتجاج، وإنما هي وثيقة للترتيبات القادمة، ولمرحلة طويلة قادمة كما أوحت، وكما أشارت، وكما طلبت بصورة مباشرة وعلنية من الإدارة الأميركية باقتراحات واضحة ومحدّدة لإنهاء دور نتنياهو، ليس فقط من خلال صناديق الاقتراع القادمة، وإنما قبل ذلك بكثير من خلال «تصفية» سياساته التي من خلالها يحاول ويتابع بصورة مثابرة جرّ المجتمع الإسرائيلي إليها.
هذه الوثيقة تقطع بالكامل مع سياسة نتنياهو لأنها تدعو إلى تأجيل مسألة حماس، وسلاحها، ولا ترى بديلاً عن المشاركة الكاملة والتامة للسلطة الوطنية الفلسطينية، ولا ترى بديلاً عن البحث في حل سياسي مع الشعب الفلسطيني.
الحقيقة أنّ معظم موقعيها شخصيات لها تجربة أمنية وعسكرية وحتى سياسية كبيرة، ولا يستطيع ترامب تجاهلهم جميعاً، وربما يكون أصلاً هو من قام بتحريك المياه العكرة، وهو الذي أشار عليهم بتقديم الوثيقة أو المذكّرة.
ما جاء في الوثيقة هو قطع كامل مع سياسة نتنياهو وهو يتناقض مع كل إستراتيجياته الراهنة والمستقبلية، ويمكن أن تشكل هذه المذكّرة أو الوثيقة برنامجاً سياسياً جديداً لهذه «المعارضة» التي فقدت دورها، وبُحّ صوتها وبهتت صورتها بالضبط بسبب محاولات التماهي مع سياسات نتنياهو، وبسبب انجرار «المعارضة»، إلى نفس مقولاته ومفاهيمه، وبسبب ضياع الفرق السياسي أحياناً بين ما تقوله، وما تقوله الجوقة «الكهانية» في الشارع الإسرائيلي.
أما الاستطلاع الأخير فأغلب الظنّ أنه قد تسبّب بصدمة كبيرة، إذ كانت الأجواء الإعلامية توحي لحزب الليكود، ولشخص نتنياهو أن مرحلة صعود أسهم «الليكود» قد بدأت، وأن صعود «اليمين» أصبح بحكم المؤكّد، وأن «المعارضة» ذاهبة إلى التفكّك، لكن الاستطلاع الأخير الذي أجرته صحيفة «معاريف» جاء كصدمة كبيرة لـ»الليكود» تحديداً، إذ خسر مقعدين كاملين، وكل الدلائل تشير إلى أن المقعد الثالث كان قريباً من الواقع، وأن محاولة الإساءة إلى نفتالي بينيت، وهو الشخص الأقوى في مواجهة نتنياهو لم تُفِد بشيء، إذا ما كان العكس هو الصحيح.
الإدارة الأميركية على ما يبدو تمعّنت في نتائج الاستطلاع، وفهمت مدلولاته، ودرست ورقة أو وثيقة الشخصيات، وراقبت مدى ما وصلت إليه الأمور في دولة الاحتلال من تراجع كبير في دور «اليمين الكهاني»، بالرغم من كل ما يقوم به من دعايات استعراضية.
صحيح أن نتنياهو ما زال يتعامل مع جمهور «اليمين» كقطيع ليس إلّا، وصحيح أن قطاعات واسعة منه ما زالت ترى فيه القائد الأبرز والأهم لممارسة قيادة الدولة في هذه المرحلة الأمنية الحسّاسة، إلّا أن الصحيح، أيضاً، هو أن نتنياهو لم يفهم، أو لا يريد أن يفهم أن معادلة ترامب أصبحت أبعد وأكبر وأخطر من ألاعيبه مع القطيع الإسرائيلي.
عشرات الخبراء بمن فيهم الذين يقفون إلى جانب ترامب، والذين وقفوا معه بشدّة وعزم أصبحوا يحذّرونه من ثلاث كوارث قادمة لا محالة قبل نهاية العام 2026.
أربع فقاعات مالية وعقارية وتكنولوجية وصناعية حيث يؤكّد هؤلاء أن الاقتصاد الأميركي الآن مقيّم بحوالى ثلاثة أضعاف قيمته الحقيقية.
ويحذّرونه، أيضاً، من أن التضخّم القادم سيكون مسبوقاً بركود اقتصادي، وأن العالم يمكن أن يدخل في كساد أكبر من الكساد العظيم الذي ضرب العالم في العام 1929.
ويحذرونه أن لا أمل، ولا مجال لمجاراة روسيا عسكرياً، ولا مجاراة الصين اقتصادياً، وأن اللجوء إلى تخفيض سعر الفائدة ليس حلّاً للأزمة، وإنكار خطر التضخّم سيزيد من الأزمة الاقتصادية، وأن أزمة الدولار قادمة لا محالة، ولا مجال لأن تتحوّل السندات الحكومية إلى الصيغة المناسبة للحدّ من تدهور الوضع.
ترامب واقع في ورطات كل واحدة منها أكبر وأخطر من الأخرى، ونتنياهو ما زال يلعب باللعبة الإسرائيلية الصغيرة.
أظنّ أنّ القادم، هي الرقصة ما قبل الأخيرة، لأنها لا بدّ أن تكون: بيبي.. إلى هنا فقط!


