في انقلاب الغاية والوسيلة: قراءة فلسفية سياسية في مأساة غزة جمال خالد الفاضي

الإثنين 22 ديسمبر 2025 12:01 م / بتوقيت القدس +2GMT
في انقلاب الغاية والوسيلة: قراءة فلسفية سياسية في مأساة غزة  جمال خالد الفاضي



المظلومية، ولا في توصيفه كـ "تكلفة حتمية للصراع"، كما يروّج كثيرين. نحن، في الواقع، أمام فشل بنيوي في ترتيب الأولويات السياسية، وانقلاب خطير في العلاقة بين الغاية والوسيلة، ستكون له تبعات تتجاوز المأساة والإبادة إلى بنية الوعي الوطني ذاته.

في الفكر السياسي الكلاسيكي، منذ أرسطو، تُفهم السياسة بوصفها فعلًا غايته تحقيق "الحياة الجيدة" داخل الجماعة السياسية. وفي سياق هذا المعنى، فالدولة، ليست كيانًا تجريديًا ولا ساحة اختبار للقوة، بل إطارًا لحماية الوجود الإنساني وتنظيمه. لذا، فأي مشروع يتجاهل هذه القاعدة ينزلق من السياسة إلى نقيضها.

حتى في أكثر النظريات تشاؤمًا تجاه الطبيعة البشرية، كما عند توماس هوبز، لم تُبرَّر السلطة إلا بوظيفتها الأساسية: منع الفناء الجماعي، وحماية الحياة من التحول إلى حرب الجميع ضد الجميع. وعليه، فإن أي ممارسة تُعيد المجتمع إلى حالة التهديد الوجودي الدائم تفقد، فلسفيًا، مبررها السياسي.

غير أن ما شهدناه وما زلنا نشاهده في غزة، يكشف عن تحوّل السلاح من أداة مشروطة إلى مبدأ حاكم. الأخطر في هذا السياق ليس مجرّد أولوية السلاح، بل الإصرار الواضح من قبل حماس على جعله أهم من الشعب ذاته. فمنذ اللحظات الأولى للحرب، لم تُظهر مواقفها السياسية أو خطابها أو قراراتها الميدانية أي اعتبار جدي لمصالح المجتمع، أو لمقومات صموده، أو لحجم الكلفة البشرية المترتبة على خياراتها. خلال مجريات العدوان، كان واضحًا أن بقاء السلاح، واستمرار حضوره بوصفه خيارًا وحيداً، قد جرى التعامل معه وكأنه غاية بحد ذاته، لا أداة خاضعة لحسابات الشعبوحمايته. بل بدا وكأن الشعب مُطالب بالتكيّف مع الخسارة، فيما يُقدَّم السلاح باعتباره قيمة أعلى لا يجوز المساس بها، حتى حين ثبت عجزه عن حماية الناس أو الأرض.

هذا الإصرار لا يمكن فهمه بوصفه صمودًا، بل بوصفه تغليبًا واعيًا للأداة على الإنسان، وانفصالًا خطيرًا بين القرار السياسي ومصالح المجتمع الذي يُفترض أن يمثّله ومن وسيلة دفاع إلى مرجعية سياسية عليا، تتقدم على المجتمع، وعلى حياته، وعلى شروط بقائه. هنا لا نكون أمام خيار مقاوم بقدر ما نكون أمام أدلجة للعنف، حيث يُفصل الفعل السياسي عن نتائجه الإنسانية، ويُطلب من المجتمع أن يتكيّف مع الدمار بوصفه قدرًا.

تحذّر "حنّة أرندت" وهي من أبرز مفكري القرن الــــ20، من الخلط بين القوة والعنف، وتؤكد أن العنف، حين يصبح بديلًا عن السياسة، لا يُنتج سلطة بل يدمّر شروطها. القوة، في تصورها، تنبع من الجماعة الحيّة وتماسكها، لا من الأدوات التي قد تنقلب على حامليها. ومن هذه الزاوية، فإن تدمير الحامل الاجتماعي باسم الفعل المسلّح ليس ذروة الصمود، بل إعلان عن إفلاس سياسي.

أما في القراءة النقدية الحديثة، فيلفت "ميشيل فوكو" الانتباه إلى أن السلطة التي لا تُدار بمنطق حماية الحياة، تتحول إلى سلطة تُدير الموت. وحين يصبح الموت أداة خطابية، وتتُحوَّل الخسارة البشرية إلى رأس مال رمزي، فإن السياسة تنزلق إلى شكل من أشكال العنف المُقنَّن الذي يخدم، في نهاية المطاف، منطق الهيمنة لا منطق التحرر.

من هنا، فإن السؤال الذي تتجنبه الخطابات التعبوية، لكنه يفرض نفسه على أي عقل سياسي جاد، هو: كيف يمكن الحديث عن صمود، بينما يُدمَّر الحامل الاجتماعي للصمود نفسه؟. وأي مشروعية أخلاقية أو سياسية لفعلٍ يُقاس نجاحه بقدرته على الاحتمال لا بقدرته على الحماية؟.

في نظريات الدولة الحديثة، تُقاس شرعية الوسائل بمدى خدمتها للغاية. وعندما تفشل الوسيلة في تحقيق الغاية، أو تتحول إلى نقيضها، فإن الإصرار عليها لا يُعدّ ثباتًا مبدئيًا، بل جمودًا أيديولوجيًا يرقى إلى مستوى اللامسؤولية التاريخية.

مأساة غزة، في هذه القراءة، لم تُدار كفضاء اجتماعي يجب تحصينه، بل كمساحة اشتباك مفتوحة، حيث يُختزل الشعب إلى متغير ثانوي في معادلة عسكرية غير متكافئة. وهذا الاختزال يعيد تعريف السياسة بوصفها إدارة للخسارة لا للحياة، وهو تعريف لا يخدم إلا من يمتلك فائض القوة. لذلك، إن أخطر ما في حرب الإبادة على غزة، ليس الدمار المادي فحسب، بل التأسيس المُمنهج، لفكرة أن بقاء المجتمع قابل للمساومة. وهذه فكرة، إن استقرت، فهي، فكرة تقوّض أي إمكانية لبناء دولة مستقبلية، لأن الدولة، في جوهرها، هي عقد لحماية الحياة لا لتبرير إفنائها.

الصمود، في المفهوم السياسي الرصين، ليس قدرةً على تحمّل الخسارة إلى ما لا نهاية، بل قدرةً على تحويل المجتمع نفسه إلى عنصر قوة: إنسانًا، ومؤسسات، وشرعية. أما تحويل الصمود إلى خطاب تضحوي دائم، فهو نقل للصراع من حقل السياسة إلى حقل العبث.

ما جرى في غزة لا يمكن اختزاله في خطاب،ولهذا لا بد من قول ما يجب قوله بوضوح، بعيدًا عن ثقافة التخوين:لا مقاومة بلا مجتمع حي، ولا سياسة بلا مساءلة، ولا شرعية لفعل يتغذّى على تدمير حامله البشري.

التاريخ لا يحاكم النوايا، بل النتائج. وغزة، بما آلت إليه، ليست فقط مأساة إنسانية، بل مرآة فكرية قاسية تكشف الحاجة الملحّة لإعادة تعريف معنى المقاومة، وحدودها، وأولوياتها، قبل أن يتحول مشروع التحرر إلى سردية فناء.

أليس في ذلك ظلمٌ فادح لشعبٍ بأكمله، يُترك أسيرًا لمواقف طرف لا يبدو أن شاغله الأول هو حمايته أو صون مقومات بقائه، بقدر ما هو ضمان استمرارها هي؟. أليس ظلمًا أن يُطالَب مجتمعٌ منهك بدفع أثمان متراكمة لخيارات لم تُصَغ على أساس مصالحه، ولا على أساس حمايته، ولا على أساس مستقبله؟

إن أخطر ما في هذا المسار أنه لا يُلحق الضرر بالشعب وحده، بل يخدم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مصالح إسرائيل الدولة، ويصب في صالح التيارات المتطرفة داخلها، تلك التي ترفض أصلًا أي فرصة لسلام حقيقي، أو لمسار سياسي يفضي إلى دولة، أو إلى حرية لشعبٍ قدّم، ولا يزال، أثمانًا باهظة من أجل حريته.

فحين يُختزل الشعب إلى ورقة صمود، وحين تُقدَّم الأداة على الإنسان، يتحول الخطاب، مهما كانت نواياه المعلنة، إلى عامل إضعاف للقضية نفسها. والنتيجة ليست مقاومة أكثر فاعلية، بل إطالة أمد الصراع، وتعميق المأساة، وتكريس واقع يخدم من لا يريدون لهذا الشعب لا دولة ولا حرية.