رسالتي للمنظّرين... حين يتحدث من لم يذق الألم باسم من تحترق أجسادهم.. جمال خالد الفاضي

الخميس 30 أكتوبر 2025 10:55 ص / بتوقيت القدس +2GMT
رسالتي للمنظّرين... حين يتحدث من لم يذق الألم باسم من تحترق أجسادهم.. جمال خالد الفاضي



ما دفعني لكتابة هذا المقال... ليس دفاعًا عن موقف شخصي، بل دفاعًا عن حقنا في قول الحقيقة، وعن إنسانيتنا التي تُهان مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالسكوت المفروض علينا باسم الوطنية، وكأن مقياس المقاومة يُقاس بعدد الموتى لا بكرامة الأحياء.

لم يعد الألم في غزة مجرد حالة إنسانية يمكن توصيفها بالأرقام أو الصور، بل أصبح مأساة متكاملة المعالم، تعكس فشلًا سياسيًا وأخلاقيًا عميقًا. على مدار ثمانية عشر عامًا، أحكمت حركة حماس قبضتها على القطاع، وحوّلت حياة الناس إلى ساحة دائمة للتجريب السياسي، والرهان الأيديولوجي، والتوظيف الفصائلي. ومع كل حرب أو أزمة، يتضاعف حجم الكارثة، وتزداد الأكاذيب التي تُروى باسم الصمود والمقاومة، بينما الحقيقة المؤلمة أن من يدفع الثمن هم أهلنا، أطفالنا، بيوتنا، والأجساد التي تُسحق بين ركام الشعارات.

منذ عام 2007، بعد الانقسام الفلسطيني، تعاملت حماس مع غزة كإقطاعية حزبية مغلقة، لا كمجتمع يحتاج إلى حياة وكرامة. استولت على المؤسسات، وأقصت الكفاءات، واحتكرت الموارد، وفرضت نمطًا من الحكم يقوم على الولاء الحزبي لا الكفاءة أو المصلحة العامة. تحت شعار المقاومة، أُعيد تشكيل المجتمع في غزة على أسس أيديولوجية ضيقة، حيث يُقاس الولاء للوطن بمدى الخضوع للحركة، لا بالعطاء أو التضحية الفعلية. كل من يعارض، يُخوَّن. وكل من ينتقد، يُقصى أو يُسكت بصوت التخوين والتهديد. وخلال كل الحروب التي مرت على غزة، لم تُراجع حماس نفسها يومًا. لم تسأل: هل كان ما فعلناه صائبًا؟ هل كنا مسؤولين بما يكفي عن مصير الناس؟ بل على العكس، كل مأساة تُستخدم لتبرير بقاءها أكثر، وكأنها كيان يعيش ويتغذى على الأزمات ودماء شعبنا. أما الأموال التي تأتي كمساعدات وتبرعات أو جبايات، فتأتي وتختفي، بلا شفافية أو مساءلة. الملايين تتدفق باسم إعادة الإعمار أو دعم الصمود، بينما الفقر يتعمق، والبطالة تتسع، والمجتمع ينهار.

لكن ما يفوق الفعل قسوة هو التبرير. ليس فقط من حماس نفسها، بل من أولئك الذين يعيشون بعيدًا عن المشهد، خلف الشاشات أو في العواصم الآمنة، ويتحدثون عن التضحيات الكبرى والمعادلة المقدسة بين الدم والحرية. يتحدث هؤلاء وكأن الموت قدرٌ رومانسي، لا مأساة إنسانية. يبررون هدم البيوت بأنه ثمن، ويعتبرون دم الأطفال رسالة للعالم، ويتعاملون مع فقدان الحياة اليومية في غزة كحدث عابر، لا كجريمة متكررة.

الأسوأ من ذلك أن كثيرًا من هؤلاء المؤيدين لم يعيشوا يومًا تجربة الحرب، لم يذوقوا الجوع ولا النزوح، ولم يُدفن أحد أحبّتهم تحت الأنقاض. ومع ذلك، يوزّعون صكوك الوطنية، ويقررون من المخلص ومن الخائن، من يصمد ومن ينهزم. إنها سادية فكرية وأخلاقية، تمارس بأدوات الخطابة والمزايدة، على حساب من يدفع ثمنًا حقيقيًا من حياته وأسرته ومستقبله.

المنطق الذي يحكم هذه العقلية هو منطق الوقود، الناس وقود المعركة، المدنيون جزء من الصورة البطولية، والدم أداة ضغط سياسية. هذه النظرة اللاإنسانية حوّلت القطاع إلى رهينة، وألغت الفرق بين المقاومة كحق مشروع ضد الاحتلال، والمقامرة بمصير مجتمع بأكمله.  ليس الدفاع عن النفس هو المشكلة، بل الإصرار على استخدام الحياة المدنية كدرع سياسي. ليس الرفض للمقاومة بحد ذاتها، بل الرفض لتحويلها إلى مشروع فئوي مغلق يُلغي النقد، ويُكفّر التفكير، ويحتكر الحق في الوطن.

الخيبة الكبرى ليست فقط من حماس، بل من منظومة الدعم الأخلاقي والإعلامي التي ترافقها من الخارج. هؤلاء الذين يجلسون على بُعد آلاف الكيلومترات، ويتحدثون عن واجب الصمود، بينما لم يصمدوا يومًا أمام انقطاع الكهرباء لساعتين.
هم من يبررون تعنت الحركة في رفض أي حلول أو انسحاب، لأن بقاءها يخدم خطابهم لا شعبها. وهم من يغضبون حين يخرج الغزيون للاحتجاج على القهر والغلاء وفقدان الأمل، فيصفونهم بالعملاء، وكأن الاعتراض على الجوع خيانة، والمطالبة بالحياة ضعف!

لا يمكن بناء وطن على أنقاض البشر. لا يمكن أن تكون الوطنية مرهونة بالصمت أمام الخطأ، ولا أن تكون التضحية ذريعةً لاستمرار الاستبداد. غزة لا تحتاج إلى مزيد من التنظير، بل إلى استعادة إنسانيتها. تحتاج إلى مراجعة حقيقية، إلى من يملك شجاعة القول إن الخطأ خطأ، وإن الثمن أصبح لا يُحتمل. الحرية لا تُختصر في شعار، والوطنية ليست ملكًا لفصيل. من يحب الوطن لا يدمره من الداخل، ولا يجعل من أطفاله وقودًا للسياسة. لقد آن الأوان أن نُميّز بين مقاومة الاحتلال، ومقاومة الخديعة الداخلية. بين من يدافع عن الأرض، ومن يدافع عن الكرسي.

هذه ليست كلمات غضب عابر، بل صرخة ضمير من بين الركام. نحن الذين عشنا التجربة، وذقنا الفقد، ونعرف معنى أن تستيقظ على صوت القصف وأن تنام على غياب الأمل. نقولها بوضوح: كفى تبريرًا للموت، كفى تلاعبًا بدماء الناس، وكفى حديثًا باسمنا من لم يعش يومًا بيننا. الوطن لا يحتاج إلى من يصفّق، بل إلى من يتحمّل مسؤولية الكلمة، ويقول الحقيقة مهما كانت موجعة. غزة ليست شعارًا، وليست ورقة سياسية، إنها روح تنزف وتبحث عن حياة.

نعم، نحن موجوعون، ومصدومون من هذا الانفصال الأخلاقي لدى من يدّعون التضامن. نحن الذين عشنا الألم الحقيقي، ونعرف معنى الفقد، وندرك أن الوطن لا يُبنى فوق ركام الناس، وأن الحرية لا تأتي من فوهة الشعارات. الحديث عن “تضحيات مطلوبة” لم يعد مقبولًا من أفواه لم تذق طعم الخسارة. من يتحدث عن التضحية عليه أن يكون في قلب النار، لا على مقاعد الراحة. فكفى تنظيرًا على جثث أطفالنا ونساءنا وشيوخنا وشبابنا، وكفى تبريرًا لموتنا. غزة ليست مختبرًا للأيديولوجيا، بل وطنٌ ينزف، وشعبٌ يريد أن يعيش.