في خضم الضجيج الإعلامي حول “الخطر النووي الإيراني”، وفي ظل التلويح المتكرر من تل أبيب وواشنطن بـ”الخطوط الحمراء”، يبرز سؤال جوهري لا تطرحه معظم التحليلات الغربية: هل المشكلة فعلاً في امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية، أم في رفضها الانصياع لنظام دولي يُدار وفق معايير الهيمنة لا العدالة؟
عندما يصرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي علنًا بأن إسرائيل لن تسمح لا لإيران ولا لباكستان – في حال تحولت إلى “دولة غير منضبطة” حسب وصفه – بامتلاك قدرات ردع استراتيجية، فإنه لا يتحدث من موقع القلق الأمني فحسب، بل من عقل استعلائي استراتيجي يرى في أي دولة إسلامية ذات طموح سيادي تهديدًا يجب تقويضه قبل أن يكتمل.
المأساة هنا أن هذا الخطاب لا يُستَغرب في تل أبيب، لكنه يتلقى غطاءً كاملاً من العواصم الغربية، التي لا تزال تنظر إلى الشرق الأوسط وجواره كـ”مناطق نفوذ”، لا كدول ذات سيادة مكتملة الأركان. فالمطلوب ليس فقط منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، بل تفكيك قوتها الإقليمية، وتغيير نظامها السياسي، وربما تقسيمها طائفيًا وعرقيًا إن لزم الأمر. إنها حرب على السيادة أكثر مما هي حرب على اليورانيوم المخصّب.
من هنا، فإن ما يجري ليس سوى فصل جديد في معركة ممتدة، عنوانها الحقيقي: من يملك الحق في الردع، ومن يُسمح له بالبقاء لاعبًا مستقلاً في عالم لا يتسامح مع “الخروج من بيت الطاعة” الغربي.
“موقع باكستان في الصراع”، أو “السيناريوهات المستقبلية”؟
شغلت زيارة وزير الدفاع الباكستاني، الجنرال عاصم منير، إلى البيت الأبيض اهتمامًا بالغًا في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، خاصةً وأنه استُقبل بحفاوة من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لم يُخفِ رغبته في إعادة تشكيل التحالفات الأمنية في آسيا وإبعاد إسلام آباد عن المحور الشرقي المتنامي بقيادة الصين وروسيا.
ad
فقد قدّم ترامب للجنرال الباكستاني “سلة مغرية” من العروض الأمريكية، شملت أسلحة متطورة من بينها طائرات الشبح من الجيل الخامس، وأنظمة صاروخية دقيقة، فضلاً عن مساعدات مالية كبيرة، في محاولة واضحة لإغراء باكستان للبقاء تحت المظلة الأمريكية والتخلي عن علاقاتها الدفاعية والاقتصادية المتعمقة مع بكين وموسكو.
كما لوّح ترامب بإبرام اتفاقيات أمنية وتجارية استراتيجية، مؤكداً على توسيع الشراكة في مكافحة الإرهاب، وهو ما أعاد إلى الأذهان ما كشف عنه الجنرال الباكستاني الأسبق برويز مشرف، حين صرّح بأن واشنطن هددت بتدمير باكستان “حجراً على حجر” إن لم تنضم للحرب الأمريكية ضد حكومة طالبان عام 2001، وهي الحرب التي أدت لاحقًا إلى إسقاط نظام كابول وفتح المنطقة على سيناريوهات من الفوضى والتدخلات الخارجية.
في المقابل، تراقب الأوساط السياسية في نيودلهي هذا اللقاء بعين القلق والحذر، لا سيما في ظلّ التقديرات التي تشير إلى دور أمريكي محوري في تهدئة التوتر الأخير بين الهند وباكستان دون الكشف عن تفاصيل ذلك التدخل، ما أثار تساؤلات في أروقة القرار الهندي حول ما إذا كانت واشنطن قد اقتربت أكثر من الموقف الباكستاني.
تزامن هذا الحدث مع مؤشرات متزايدة على أن الهند، مثل جارتها باكستان، تتعرض لضغوط متصاعدة من واشنطن للانخراط في الترتيبات الأمنية الأمريكية في المنطقة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فبينما تُغري الولايات المتحدة إسلام آباد بعروض سخية تشمل أسلحة متطورة وصفقات اقتصادية، فإنها تمارس في المقابل ضغوطًا ناعمة ومتدرجة على نيودلهي لتتماهى مع استراتيجيتها في التصدي للصعود الإيراني، واحتواء النفوذ الصيني المتزايد في بحر العرب وآسيا الوسطى.
ويشير محللون إلى أن الهند، رغم حرصها على استقلالية قرارها الخارجي، تجد نفسها محاصرة بين التزاماتها كشريك استراتيجي للولايات المتحدة من جهة، وعلاقاتها التاريخية والاقتصادية مع طهران وموسكو من جهة أخرى. وهو ما يجعلها تسير على حبل مشدود، في محاولة لتفادي الاصطفاف العلني، وفي الوقت نفسه، تجنّب استعداء واشنطن التي باتت تنظر إلى جنوب آسيا كساحة رئيسية في معركتها الجيوسياسية ضد أعدائها التقليديين.
وفي ظلّ ما تشهده منطقة الخليج من تصعيد متسارع، وتنامي الدعوات لجرّ المنطقة إلى مواجهة مفتوحة ضد إيران، يبرز هذا التحرك الأمريكي ـ الإسرائيلي كخطوة باتجاه إعادة إحياء “حلف بغداد”، ولكن بنسخة حديثة تضم دولاً إسلامية وعربية وآسيوية، تُوظّف تحت مظلة واشنطن في مواجهة خصومها الاستراتيجيين.
وفي هذا السياق، يبدو أن المشروع الأمريكي-الغربي يهدف إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط سياسيًا وجغرافيًا، عبر تفكيك القوى الإقليمية الكبرى وإعادة تشكيل المنطقة تحت وصاية كاملة للمصالح الغربية، وهو ما يترافق مع تمدد إسرائيلي متسارع، ليس فقط في احتلال المزيد من الأراضي السورية ،بل في تصفية القضية الفلسطينية والقضاء الممنهج على خيار “حل الدولتين”، عبر تعميق الاستيطان وتكريس واقع الدولة اليهودية الواحدة.
المأساة الحقيقية تكمن في أن الغرب لا ينظر إلى دول المنطقة باعتبارها دولًا ذات سيادة مستقلة، بل يتعامل معها كـ”مناطق نفوذ” ينبغي إخضاعها، إما عبر السيطرة المباشرة أو من خلال وكلاء محليين ونخب مُطوَّعة تخدم أجنداته الاستراتيجية.
فمنذ انهيار النظام الاستعماري الكلاسيكي في منتصف القرن العشرين، لم تتوقف محاولات القوى الغربية لإعادة إنتاج الهيمنة على الشرق الأوسط، ولكن بأساليب جديدة تقوم على تفكيك الدولة الوطنية، وإضعاف المؤسسات السيادية، وزرع الانقسامات المذهبية والعرقية، بما يضمن عدم قيام أي قوة محلية قادرة على مقاومة النفوذ الخارجي.
في هذا السياق، تتحوّل قضايا مثل “الديمقراطية”، و”حقوق الإنسان”، و”محاربة الإرهاب”، إلى أدوات خطابية تُستخدم لتبرير التدخلات، وإعادة رسم الخرائط السياسية والاقتصادية بما يخدم مصالح واشنطن ولندن وباريس وتل أبيب. أما الحديث عن سيادة الدول، واحترام قرارات شعوبها، فغالبًا ما يُطوى أمام أولويات النفط، أو طرق الملاحة، أو أمن إسرائيل.
خاتمة: صراع النفوذ… لا صراع نووي
في جوهره، لا يتعلق ما نشهده اليوم في الشرق الأوسط بالملف النووي الإيراني، ولا حتى بإيران أو باكستان كدول قائمة، بل هو فصل من الصراع العالمي الأكبر على من يقود العالم، ومن يرسم خرائط القوة والنفوذ، ومن يُعيد توزيع الثروات على حساب شعوب الجنوب.
فالولايات المتحدة، مدعومة من حلفائها الغربيين وإسرائيل، تسعى لإعادة فرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط باعتبارها حجر الزاوية في أمن الطاقة، والممرات البحرية، والأسواق الاستراتيجية. وهي بذلك تسعى إلى تحصين مواقعها في وجه تمدد الصين الاقتصادي عبر “طريق الحرير الجديد”، ومواجهة النفوذ العسكري والسياسي المتزايد لروسيا في المنطقة من سوريا إلى الخليج.
من هنا، فإن إضعاف إيران، وتحجيم باكستان، وتطويق تركيا، وتفكيك ما تبقى من سوريا والعراق ولبنان، ليس مجرد سياسة إقليمية، بل استراتيجية كبرى تهدف إلى قطع الطريق أمام أي تموضع روسي-صيني دائم في قلب العالم الإسلامي والعربي.
في المقابل، فإن رهان الشعوب لا يجب أن يكون على اصطفاف مع هذا القطب أو ذاك، بل على بناء توازنات داخلية وإقليمية مستقلة، تقاوم الهيمنة، وتُفشل مشاريع التفكيك، وتُعيد تعريف مفهوم “السيادة” خارج حدود الارتهان للمحاور الدولية.
فالمرحلة القادمة لن تكون فقط صراع قوى عظمى على النفوذ، بل على الوعي والسيادة والكرامة. والمستقبل لن يُمنح لأحد… بل يُنتزع.
كاتب صحفي -مستشار مميز في مؤسسة تيليتوما للدراسات الاستراتيجية


