كتب وليد العوض:
مع ساعات الصباح الاولى ليوم الاثنين 27-1-2025 بدأت حشود النازحين العائدين بالزحف نحو الشمال بعد نزوح قصري لأماكن متعددة استمر لما يزيد عن خمسة عشر شهراً ذاقوا خلالها أمرُ العذاب تنقلوا من مكان لآخر تحت وابل القصف المجنون الذي اقتلع خيامهم وحول اجساد أطفالهم الغضة إلى اشلاء تناثرت في كل مكان،
اليوم بدأت جحافل النازحون بالعودة إلى الشمال بعد ان امضوا ليال ثلاث في العراء يترقبون ساعة الصفر وما ان حلت هذه حتى تدفق مئات الالاف منهم على طول شارع الرشيد من خان يونس جنوباً حتى مدينة غزة شمالاً وصولاً إلى محافظة الشمال، النازحون تقاطروا مشياً على الاقدام تحمل النساء اطفالهن على الاكتاف والرجال يجرون عربات صنعت على عجل حملوا عليها ما استطاعوا من متاع خبروه خلال جولات النزوح التي سبقت، الفتية يربطون على ظهورهم فرشة بالية وغطاء يقيهم برد الشتاء القارس والاطفال يحملون زجاجات المياه ليطفئ الظمأ من مسير العودة الطويل الذي يمتد لأزيد من خمسة عشر كيلو متر في طريق حولته الدبابات والجرافات إلى أخاديد .
مشاهد العودة تقشعر لها الابدان حيث فتى يحمل انبوبة غاز على كتفه في هذا المسار الطويل يصل مترنحاً تحت عبئ هذا الحمل الثقيل إلى شمال غزة الحزينة، لكن من بقي صامدً فيها اصطفوا على حواف الطريق المدمرة يذرفون دموع الفرح ينتظرون النازحين العائدين من الاحبة، الشباب والصبايا وقفوا يحملون أرغفة من الخبز وزجاجات من الماء لكل من عاد في مشهد يعكس طبيعة شعبنا وتكافله الاجتماعي في اشد الظروف حلكة، المئات ممن عادوا وصلوا إلى بيوتهم المدمرة وعلى أطلالها علا النحيب على بيوت تركت عامرة وغدت ركام هؤلاء سارعوا لنصب خيامهم التي حملوها على انقاض بيوتهم وبالقرب منها ينتظرون الاعمار الذي قد يستمر سنوات إذا ما بقيت الأمور تدار على هذه النحو من التبسيط ولسان حالهم يقول لن ننزح مرة اخرى مهما حدث وتحت اي ظرف من الظروف بعد المعاناة والالم الذي عايشوه خلال رحلة الموت والنزوح إن لم أقل حالة الذل والمهانة والعوز لشهور طوال .
الالاف من النازحين هاموا على وجوههم يبحثون عن منازلهم التي اختفت معالمها بعد ان اقتلعتها اسنان جرافات فاشية العصر وسوتها بالأرض تحت جنازيرها، مشاهد مفرحة ومؤلمة يندى لها الجبين حيث يحتضن الآباء أبناءهم وبناتهم والدموع تنغمر مدرارة تغسل وجع النزوح المُر وأصوات تتردد بقوة لن ننزح مرة اخرى وفتية يرددون بصوت عال هل هذه غزة التي تركناها عامرة قبل عام أم أنها تقليد لغزة التي نعرفها تبتسم على الدوام،
مشاهد عودة النازحين رغم انها كانت صعبة وشاقة وحتى انها كانت مذلة بعض الشيء لكنها مثلت الطوفان الحقيقي انه "طوفان العودة" للبيت التي اكدت ان مخطط التهجير بفعل النار والدمار قد سقط وداسته اقدام شعبنا بعد 15 شهراً من النار والدمار، مشاهد العودة هذه تحمل رسالة هامة مفادها اننا لن نرحل وهي ردٌ عملي على مقترحات ترامب التهجيرية المغلفة بشعارات إنسانية ، رسالة واضحة لمن يريد ان يفهم وعليه ان يفهم ان الذين رفضوا رغم الموت والدمار والنار النزوح من شمال غزة إلى دير البلح وخان يونس ورفح وهي على بعد بضعة كيلو مترات من شمال غزة هؤلاء لن ينزحوا للخارج بعيداً عن الوطن الذي أحبوه ومن دمائهم شربت الارض حتى ارتوت ، كما هذه المشاهد تؤكد لكل من يتوجب عليه ان يفهم وعليه أن يفهم بأن الفلسطيني مرتبط بارضه متعلقٌ بها وهو يفضل الموت فوقها ويدفن في ترابها على النزوح بعيداً عنها، ان حكاية علاقة الفلسطيني بارضه وتوقه الدائم بالعودة لها يجسدها شعبنا اليوم في طوفان العودة للشمال حيث ما زالت الناس تزحف عائدةٌ رغم العطش والجوع والبرد القارس وتؤكد بملئ فيها إنا هنا باقون صامدون والى هنا عائدون
27/1/2025 شمال غزة