تساءلت أني هيليتون،الأستاذة المشاركة في جامعة بو للعلوم في باريس إن كانت الدول الأخرى تستطيع محاكمة الجنود الإسرائيليين الذين ارتكبوا فظائع في غزة. مشيرة في تقريرها الذي نشرته مجلة “ذي نيويوركر” إلى حركة قانونية لجأت إلى مبدأ الإختصاص العالمي الذي يعطي المحاكم الوطنية للتعامل مع حالات جرائم حرب، في أي مكان ارتكبت ومهما كانت هوية مرتكبيها.
ولفتت الكاتبة إلى شريط فيديو انتشر في الربيع الماضي على منصات التواصل الإجتماعي، والتقط في الليل ويظهر جنودا في زي عسكري أخضر وهم ينقلون مجموعة من السجناء. وكان المعتقلون يرتدون زيا أبيضا وعيونهم معصوبة وأيديهم مقيدة إلى الخلف. وبدأ الشخص الذي كان يحمل الكاميرا يتحدث بالفرنسية قائلا: “هل شاهدتم ابن العاهرة” في إشارة لسجين سقط زيه حتى وسطه “أنظروا لقد بال على نفسه، وسأريكم ظهره لكي تضحكوا، لقد عذبوه لإجباره على الاعتراف”. وفي لقطة أخرى ركز الكاميرا على رجال بمن فيهم واحد تظهر علامة على ظهره وقال لهم: “فرحتم في 7 تشرين الأول/أكتوبر يا أبناء العاهرات”.
وتقول مجموعة من منظمات حقوق الإنسان الأوروبية والفلسطينية إن الفيديو صوره جندي فرنسي- إسرائيلي في غزة خدم مع الجيش الإسرائيلي. وطالب سياسيون في فرنسا بإجراء تحقيق، بحجة أنه إذا كان هذا الجندي يحمل الجنسية الفرنسية وربما ارتكب التعذيب، أو ساعد وشجع على ذلك، فيجب محاكمته في المحاكم الفرنسية بتهمة ارتكاب جرائم حرب محتملة. وكتب توماس بورتيس، نائب في الجمعية الوطنية على منصة إكس قائلا: “سأتصل على الفور بالمدعي العام في باريس”. إلا أن دورة الأخبار سرعان ما انتقلت إلى موضوع آخر، ولم تتطرق السلطات الفرنسية إلى القضية مطلقا.
وخلف الكواليس، كانت مجموعة من المحامين والناشطين في جميع أنحاء أوروبا تتعاون بالفعل لتوثيق حوادث مماثلة – وربما رفع دعاوى قضائية بشأنها.
وتقول الكاتبة إن ألافا من الأوروبيين انضموا إلى الجيش الإسرائيلي، ومعظمهم منذ بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومن الصعب تحديد العدد الحقيقي، ولكن الجيش الإسرائيلي يقدر عدد الجنود في صفوفه من حملة الجنسية الفرنسية بحوالي 4,000 جنديا. وهم ثاني مجموعة من المجندين الأجانب بعد الولايات المتحدة.
وتعلق الكاتبة أن سلطات مكافحة الإرهاب الفرنسية فتحت تحقيقا في الهجمات التي قادتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر والتي جرح فيها مواطنون فرنسيون وقتلوا، ولكنها لم تفتح تحقيقا في مزاعم ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة.
وأشارت أوليفيا زيمور التي تقود مجموعة المناصرة “يوروبلاستاين” إلى مذكرات الإعتقال الدولية التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يواف غالانت، قائلة: “هناك الألاف من حملة الجنسية المزدوجة في الجيش الإسرائيلي والذي قد يكونوا قد ارتكبوا جرائم حرب” ولكن الحكومة الفرنسية لم تفعل شيئا و “نعتبر هذا خطيرا”.
وتقول إن المجتمع الدولي قام بعد الحرب العالمية الثانية بخلق آليات لمحاكمة الجرائم الدولية، من الإبادة الجماعية إلى التعذيب واستخدام السلاح الكيماوي، خارج المحاكم الوطنية والتي عادة ما تفشل أو تكون غير قادرة على معالجة الحالات.
وقد أحالت محاكمات نورمبرغ، أول محكمة دولية لجرائم الحرب في التاريخ، بعض كبار المسؤولين في الحزب النازي إلى المحاكمة. وفي وقت لاحق، أنشئت محاكم خاصة لملاحقة الفظائع التي ارتكبت في رواندا ويوغوسلافيا السابقة وسيراليون وكمبوديا وغيرها.
وفي هذه الأيام، هناك اعتراف متزايد بأن مثل هذه المؤسسات غير كافية. فالمحاكم الخاصة، التي أنشأتها الأمم المتحدة، مقيدة بصراعات محددة وفترات زمنية محددة. وفي عام 1998، صوتت 120 دولة على اعتماد نظام روما الأساسي، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، التي تتمتع بحضور دائم في الأمم المتحدة.
وقد اتهمت المحكمة الجنائية بإدارة رد أجوف وبطيء ولم تدن إلا 11 متهما في تاريخها، وكلهم من الأفارقة، مما حدا بالمسؤولين الأفارقة والباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار لاتهام المحكمة بأنها تركز على قارة أفريقيا وتهمل النزاعات الأخرى. كما أن مصادرها المتواضعة تعني أن المتهمين الكبار هم فقط من يحاكمون.
ويقول جوهان صوفي، الخبير في القانون الدولي: “إنها نقطة عدالة في بحر الإفلات من العقاب”. وللتعويض عن ملامح القصور في عمل الجنائية الدولية، لجأ المحامون في أوروبا وأماكن أخرى بشكل متزايد إلى مبدأ قانوني يعرف بالاختصاص العالمي، والذي يخول المحاكم الوطنية مقاضاة الجناة بطريقة أكثر تصاعدية ولامركزية. وقد استخدم هذا المبدأ في البداية لملاحقة القراصنة وتجار الرقيق، وهو يسمح لأي محكمة بتولي قضايا تنطوي على انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، بغض النظر عن مكان ارتكاب هذه الجرائم أو جنسية الجاني. ويستند هذا المبدأ إلى فرضية مفادها أن أولئك الذين يرتكبون جرائم ذات حجم معين هم “أعداء البشرية جمعاء” وبالتالي ينبغي لجميع الدول أن تتمتع بسلطة محاسبتهم.
وقد تم ترسيخ هذا المبدأ في اتفاقيات جنيف في عام 1949، وكان محوريا في محاكمة إسرائيل في عام 1961 لأدولف آيخمان، وهو مسؤول نازي كبير، لدوره في الهولوكوست. ولكن بعد ذلك، أصبح هذا المبدأ خاملا إلى حد كبير.
ويصف صوفي إحياء هذا المبدأ بأنه “أحد التطورات العظيمة التي شهدها العقد الماضي”. فقد تم فتح مئات القضايا التي تغطي الصراعات في سوريا وغامبيا ورواندا والعراق وليبيريا، ودول أخرى، أو تمت مقاضاة مرتكبيها بنجاح.
ففي عام 2023 قامت “ترايل انترناشونال” (المحاكمة الدولية) وهي منظمة غير حكومية مقرها في جنيف بتوثيق حالات محاكمة بناء على الإختصاص العالمي في 8 دول بما فيها فتح 36 حالة، وكلها متركزة في أوروبا، إلا أنه وبحسب مؤسسة كلوني للعدالة، فهناك 148 دولة لديها تشريعات محلية تسمح بمحاكم بناء على الإختصاص العالمي. وضم الجناة المزعومون، مسؤولون حكوميون سابقون وأعضاء سابقون في جماعات مسلحة متمردة وشبه عسكرية وشركات ورجال أعمال.
وبحسب فوني رامبولامانانا، المستشارة القانونية البارزة في منظمة “ترايل إنترناشونال”، فإن الولاية القضائية العالمية “هي واحدة من أقوى الأدوات” المتاحة لمكافحة الجرائم الدولية وأننا “نرى أنها تعمل لأننا نحصل على نتائج”. وبادرت المؤسسات القانونية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا والولايات المتحدة لمعالجة حالات بناء على الإختصاص العالمي.
ففي عام 2016 أدانت محكمة ديكتاتور تشاد السابق حسين حبري بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتعذيب وحكم عليه مدى الحياة في السنغال، حيث هرب بعد سقوط نظامه. وفي العام الماضي، أصدر مدع عام في الأرجنتين مذكرات اعتقال ضد مسؤولين في ميانمار بتهم ارتكاب جرائم ضد مسلمي الروهينغا. وقام مركز الحقوق الدستورية الأمريكي، وعلى مدى عقد برفع قضايا بناء على الإختصاص العالمي في أوروبا وكندا، تتعلق بحوادث التعذيب التي ارتكبتها الحكومة الأمريكية أثناء الحرب على الإرهاب. وقد دفعت حرب روسيا في أوكرانيا العديد من دول أوروبا الشرقية إلى فتح أول تحقيقاتها في هذا الشأن بموجب الولاية القضائية العالمية. وفي تشرين الأول/أكتوبر، فتح المدعي العام الفيدرالي البلجيكي تحقيقا أوليا في جرائم حرب ضد مواطن بلجيكي إسرائيلي تشير تقارير إخبارية إلى أنه عضو في وحدة قناصة إسرائيلية متخصصة في غزة. وقد تم فتح تحقيق مماثل مؤخرا في جنوب أفريقيا. ويبدو أن التحقيق يعتمد على تقرير مصور للصحافي الفلسطيني يونس طيراوي، والذي يركز على وحدة القناصة. ويتضمن التقرير مقابلة مع أحد الأعضاء الأمريكيين في الوحدة التي تضم على ما يبدو21 شخصا، منهم فرنسيون وألمان وإيطاليون أيضا. ويقول إن مهمة الوحدة هو مراقبة الناس في مناطق القتال، بمن فيهم غير المسلحين الذين يرتدون ملابس مدنية، باعتبارهم أهدافا محتملة. ويقول إنه تم إطلاق النار على شخص جاء لأخذ جثة.
وتقول كلير تكسيري، المستشارة البارزة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، إن الولاية القضائية العالمية مهمة حتى عندما لا تحقق نتائج، ذلك أنها تؤكد على السجلات التاريخية للجرائم التي قد تمضي بدون توثيق و “نظرا لأن العديد من الجرائم الدولية تحدث في أماكن نزاع عنيف، فالشهود يعيشون في أوضاع تكون حياتهم عرضة للتهديد”، وتضيف ” عادة ما تمحى الذاكرة، ومن انهم جدا بناء السجل القانوني ولتسجيل وتتبع والحكم على شهادات شهود العيان والحجج والأدلة”.
ومنذ عام 2016، مثلت تكسيري الضحايا السوريين في المحاكم الفرنسية في قضية ضد “لافارج” وهي شركة أسمنت فرنسية لها فرع في سوريا، بتهمة التواطؤ المزعوم في جرائم ضد الإنسانية. واتهمت الشركة بدفع ملايين الدولارات كرشاوى لتنظيم الدولة وجماعات مسلحة أخرى. كانت الرشاوى للمساعدة في إبقاء مصنع الأسمنت التابع للشركة في الجلابية، في شمال سوريا، مفتوحا، بما في ذلك عندما كانت المنطقة تحت سيطرة تنظيم الدولة.
وكانت لافارج أول شركة في العالم تواجه مثل هذه التهمة. كما يخضع أربعة من كبار المسؤولين التنفيذيين السابقين للمحاكمة. وقال متحدث باسم الشركة: “تتعلق هذه الادعاءات بقضية موروثة من عقد مضى تعالجها شركة لافارج بالطرق القانونية”.
وتتولى القضية وحدة لمكافحة الإرهاب تعمل تحت المدعي العام في باريس وتعرف باسم “بنات” والتي تلاحق أكثر من 150 تحقيقا في جرائم دولية في 30 دولة. وفي شهر آذار/مارس العام الماضي ومع توسع توسع الحرب في غزة، أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية أن الحكومة لن تحقق في سلوك المواطنين الفرنسيين الإسرائيليين في الجيش الإسرائيلي. وقال متحدث باسم الوزارة: “إنكم تعلمون أن الجنسية المزدوجة تعني الولاء المزدوج، لذا فإننا لن نحقق فيما يفعله المواطنون الفرنسيون الإسرائيليون فيما يتصل بالتزاماتهم العسكرية في إسرائيل”. وانتقد كثيرون القرار باعتباره سياسياً، وهو ما يوضح حقيقة مفادها أن الاختصاص العالمي، مثل القانون الدولي، يتم تطبيقه بشكل انتقائي. ولكن اتهام جنود دولة أخرى بارتكاب جرائم له قيمة سياسية خاصة به، حيث قالت كارمن تشيونج كا- مان، المديرة التنفيذية لمركز العدالة والمساءلة ومقره الولايات المتحدة: “إذا قمت بتوسيع نفس المبدأ ليشمل أي عضو في القوات المسلحة الأمريكية، فقد يكون عرضة للملاحقة القضائية نظراً للأشياء التي قمنا بها كدولة”. وأكد المدعي العام لبنات، أوليفيه كريستين أن عمل الوحدة الأساسي هو التحقيق في الحرب الإسرائيلية ضد حماس والضحايا الفرنسيين في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وفي هذا الإتجاه أشارت “نيويوركر” إلى جهود حركة 30 آذار التي أنشئت بجهود دياب أبو جهجه، الكاتب والناشط البلجيكي- اللبناني الذي وصفته “نيويورك تايمز” بمالكوم إكس بلجيكا، وعاش تحت الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان في الثمانينات من القرن الماضي.
وعندما بدأت الحرب على غزة أيقن أنها “ستكون بداية فصل رهيب من الإنتقام”، وعرف أن الظهور في التلفزيون والمشاركة في التظاهرات لن يجدي.
ولهذا قام مع مجموعة من الأصدقاء والناشطين والوجوه العامة بالبحث عن طرق للمساعدة في إحداث أثر. وجاءت حركة 30 آذار من أجل بناء حالات قانونية ضد الأوروبيين الذين انضموا للجيش الإسرائيلي، بما في ذلك المساهمة في جرائم حرب وتدمير الممتلكات ومنع المواد الإنسانية. ولم تتقدم بعد أي قضية للمحاكمة، لكن هناك قضايا ينظر فيها بهولندا وبلجيكا وفرنسا. ويقوم المتطوعون بالمجموعة بالبحث في منصات التواصل الإجتماعي وغيرها من المصادر المفتوحة ومتابعة متهمين محتملين قاموا بنشر جرائهم علنا. لكن ربط هذه الجرائم بحادثة بعينها صعب. وفي الصيف الماضي قام الفريق القانوني “مؤسسة هند رجب” بتقديم دعوى ضد جندي إسرائيلي هولندي بناء على منشوراته في منصات التواصل الإجتماعي والمصادر المفتوحة التي حددت مكانه في كتيبة إسرائيلية بغزة هاجمت المناطق السكنية والمواقع الدينية والمدارس. وصور الجندي نفسه وهو يحرق بيتا دمر جزئيا وكتب اسمه بالعبرية على جدرانه، حسب المحامي الهولندي هارون رضا الذي يعمل مع المجموعة. وأشار رضا إلى جرائم مماثلة ارتكبها الأوروبيون في الضفة الغربية. لكن المجموعة وبعد جمعها معلومات وأدلة عن الجندي الفرنسي الذي تحدث في فيديو السجناء وقدمتها في أيلول/سبتمبر، لكن القضية رفضت بزعم عدم وجود أدلة كافية. لكن القضية تبنتها في الشهر الماضي مجموعة من جماعات حقوق الإنسان، عرفت نفسها بالأحزاب المدنية التي تؤدي حسب القانون الفرنسي إلى تحقيق قضائي فوري.
وقدمت حركة 30 آذار ملفا للجنائية الدولية يحتوي على اسم ألف جندي معظمهم من حملة الجنسية المزدوجة، من أمريكا وكندا وبلجيكا، وفرنسا، وأيرلندا، وهولندا. ويعتقد المحامي الفرنسي صوفي أن كل الجنود الأجانب الذين يخدمون في غزة يجب أن يخضعوا للتحقيق. وقال: “إن تجويع شعب بأكمله، والقصف العشوائي – أي شخص ساعد وشجع على هذه الجرائم مسؤول قانونياً بموجب القانون الدولي”. “حتى لو كنت جنديا فرنسيا، وكنت تساعد في فرض الحصار على السكان المدنيين بالكامل، فأنت ربما مسؤول قانونيا عن المساعدة والتحريض على جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية”.