تكاد تكون الثورات سمة العالم الثالث، وغالباً ما تندلع لدوافع اجتماعية اقتصادية، وبسبب قهر السلطات، وتهميشها لفئات معينة، أو لمقاومة احتلال.. لكن أصحاب الثورات لا يقرون (وربما لا يدركون) الأسباب الحقيقية والموضوعية لاندلاع الثورة، فيرفعون شعارات كبيرة غطاء لها، أو من أجل استقطاب المزيد من الجماهير والأتباع، لا فرق هنا بين الثورات اليسارية والقومية والإسلامية. ما يختلف فقط لغة الشعار.. لدى الحركات الجهادية: الموت في سبيل الله أغلى أمانينا. لدى الثورات الوطنية: حماية الوطن، تصفية أعداء الثورة، فداء القائد، معركة التحرير، المقاومة، التضحية. اليسارية: العدالة الاجتماعية، المساواة.. إلخ، وتلك الشعارات سرعان ما تتحول إلى مجرد يافطات بلا مضمون، وتصبح صنماً مقدساً، ويتم التخلي عنها تدريجياً بعد اتساع الفجوة بينها وبين الواقع، ولصعوبة أو استحالة تطبيقها، فضلاً عن طوباوية ودوغمائية بعضها. وبعد أن تخفق الثورة في تحقيق وعودها، تصبح القوة التي تملكها عبئاً على محيطها، فهي قوة محتقَنة وبحاجة لمخرَج، وثمة حاجة لتعويض العجز عن تحقيق نصر حقيقي على العدو، فتبدأ بتوجيه عنفها نحو الداخل. وبذريعة تلك الشعارات تصبح الثورة/ المقاومة هدفاً بحد ذاته، وتحت ظلالها تبدأ المجموعات الثورية بممارسة العنف المجتمعي والاستبداد والفساد.
هذا ليس حُكماً على أحد، بقدر ما هو رصد وتوصيف لما شهدناه عبر عشرات الثورات التي بدأت لغايات نبيلة ووطنية ثم ارتدت، وتحولت إلى مجرد عنف، وصار أبناؤها يمارسون القهر والظلم على محيطهم الاجتماعي (نفس الظلم الذي ذاقوه ومن أجله ثاروا)، بل ويمارسون أشكال الفساد بدءاً من المسلكيات البلطجية، وصولاً إلى الفساد المادي.. وهو تحليل لظاهرة سياسية من منظور اجتماعي، وسيكولوجي، فالنفس الإنسانية محكومة لنوازعها البشرية، ومن العادي جداً أن يشعر أي شخص بمجرد امتلاكه السلاح، أو سيطرته على مجموعة مسلحين، وتحكّمه في إدارة منطقة ما، حتى لو كانت حارة، أن يشعر بمزايا السلطة وأهمية القوة، التي ستعوضه عن نقصه الاجتماعي والنفسي، وستلبي رغباته في السيطرة وممارسة العنف، وتلك «المجموعات الثورية» ستوفر لأتباعها الأمن والحماية وتقاسم المنافع. الشعار هنا يظل حالة متخيلة مؤجلة، ولا فارق بين أنواع الثورات في ممارسة الفساد سوى في المسميات: قائد حزبي: أمير المنطقة.. مبنى المخابرات: مقر الجماعة.. المكاتب الحزبية: الجوامع.
في الحالات التي انتصرت فيها الثورة (بمعنى أنها استلمت السلطة) تحولت إلى نظام استبدادي شمولي تُمارس كل الموبقات وأشكال الظلم والقمع. وتحت شعارات (المقاومة مقدسة، الزعيم الملهم...) يتم حظر النقد وتكميم الأفواه.. وتحت شعارات (الثورة المضادة، أعداء الوطن، الكفار، المرجفون، الطابور الخامس...) يتم إقصاء كل المعارضين والمختلفين. وهنا يُضاف إلى امتلاك الثورة مقراً للمخابرات، ولسجون ومعتقلات وأجهزة أمنية.. وحجم غنائم ومنافع أكبر.. ويظل النظام يقتات على شعارات الثورة التي تمنحه الشرعية.
في جميع الأنظمة الاستبدادية يتم تجريد المواطن من حقوقه وإنسانيته ومحق كرامته.
ولو أردنا التخصيص والحديث عن واقعنا ومحيطنا القريب، سنجد أمثلة صادمة؛ فمثلاً لا فرق بين سجن أبو غريب أيام صدام عنه في فترة الاحتلال الأميركي، ولا فرق بين سجن صيدنايا وسجون أدلب التي افتتحها نفس الشخص الذي حرر صيدنايا! ولا فرق بين غوانتانامو الأميركي وسجون الأنظمة العربية. ولا فرق بين سحق الإنسان في «سورية الأسد» وسحقه في السودان أو اليمن أو أي بقعة عربية، أو في ظل أي نظام دكتاتوري.
سواء كانت ثورة (بمختلف توجهاتها)، أو نظاماً شمولياً، أو دولة رأسمالية ثمة تشابه كبير في أربع نقاط، الأولى: إغراء وسحر القوة (السلاح، المال) على قيادة الثورة/ المقاومة، الذي سيتحول إلى رغبة جامحة لبسط النفوذ والهيمنة والسيطرة، ولتمكينهم من ممارسة الفساد. الثانية: استخدامات الشعار بأسلوب تضليلي مخادع، عادة ما تنطلي حيله على العامّة. الثالثة: الضحية الأولى لهذا النهج النساء والأطفال والفقراء والمدنيون عامة. الرابعة: النظرة المشوهة تجاه الإنسان، فمثلاً لدى المنظمات «الثورية» الشعب وقود للحروب، ومنذور للتضحية، وعليه الرضوخ والتسليم. هكذا فعلت «حماس» بشعبها! وهكذا فعلت الأحزاب الحاكمة ذات الأيديولوجيات المطلقة. أما في الأنظمة الرأسمالية فالشعب مجرد أصوات انتخابية، وجمهور مستهلكين وقوة شرائية، ودافعي ضرائب.. ويُسمح له بحرية الصراخ، لكن في المحصلة يتم قهر الإنسان، وسحق روحه، وتحطيم آماله، وتجريده من حقوقه الإنسانية والمدنية، والنظر إليه على أنه مجرد شيء، أو منفعة، أو أضحية.
في الأنظمة الرأسمالية يأتي الظلم بأشكال أكثر أناقة: أولاً شكل النظام يختلف، فهناك دولة عميقة، وحزبان أو أكثر يتداولون السلطة ودور المعارضة.. الفساد أكثر تطوراً وهو قادر على استغلال مؤسسات الدولة بطرق علنية، والنفاذ من ثغرات القانون أو تطويعه لحسابه، وتبريره بشعارات الحرية الشخصية والليبرالية، بل إن الدولة نفسها تمارس الفساد تحت شعارات: نشر الديمقراطية، السوق الحرة، مكافحة الإرهاب، حقوق المرأة والطفل، وقضايا الجندر، والبيئة، وأضيف حديثاً حقوق المثليين.. يتغنى السياسيون والمرشحون للانتخابات بتلك الشعارات بوسائل إعلامية عصرية، ثم يعطون ولاءهم للشركات الكبرى ومراكز القوى وأصحاب المليارات واللوبيات المسيطرة والمافيات والمؤسسات المالية ويسلمونهم رقاب الشعب ودمه وعرقه ليستغلوه وينهبوه كيفما يشاؤون وتحت حماية القانون. الفرق هنا وجود بعض الأجهزة الأمنية السرية، والسجون السرية، فضلاً عما يفعلونه بحق الشعوب الأخرى من نهب وسلب واستغلال وإفقار.
طالما أن الإنسان ليس محور الثورة، ولا يتم النظر إليه باعتباره الأساس والمنطلق والغاية، وحياته وكرامته وحقوقه أهم من كل الأهداف السياسية والأيديولوجية والوطنية والدينية، ستتحول أي ثورة أو فعل مقاوم مهما رفع من شعارات جميلة وبراقة إلى نظام استبدادي فاسد.