تشويه كل ما هو جميل..

الأربعاء 30 أكتوبر 2024 07:28 ص / بتوقيت القدس +2GMT
تشويه كل ما هو جميل..



الكاتب: عبد الغني سلامة:


واقعنا الفلسطيني (والعربي عموماً) واقع اجتماعي مزرٍ وبائس، مع وضع اقتصادي متردٍ، يسوده الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي الظالم، وفساد إداري ومالي وسياسي، وتاريخنا عبارة عن مسلسل من الهزائم العسكرية، والتراجعات والإخفاقات.. وهذا الواقع محصلة تاريخ طويل من التراجع الحضاري للأمة والذي بدأ منذ أزيد من ألف سنة.
لكن رؤية واقعنا من هذا المنظور الأحادي وحسب، عبارة عن رؤية سوداوية متشائمة، وهي رؤية غير موضوعية وغير عادلة؛ إذ إن واقعنا وتاريخنا لم يخلُ مرة واحدة من ومضات مضيئة، ومحطات مشرّفة، ومن إنجازات ومبادرات رائعة هنا وهناك، كما أنه مليء بالشخصيات المحترمة التي بفضل عطائها وتضحياتها ونبوغها تحولت إلى ما يمكن وصفه بالأيقونات والرموز التاريخية.
في هذا الوصف نتشابه مع سائر شعوب الأرض تقريباً، وما يجعلنا مختلفين بعض الشيء خصوصية وضعنا السياسي وما نشأ عن النكبة والاحتلال والتشريد، حيث عاش شعبنا في مناطق شتى من العالم، وبالتالي خضعت كل فئة لظروف مختلفة (سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً) بحسب المنطقة التي لجأ إليها، وهذه الاختلافات في ظروف التنشئة أوجدت فروقات بيّنة في التكوين النفسي والاجتماعي لكل فئة، ما جعلنا شعباً متبايناً فكرياً ونفسياً ومزاجياً، وفي الميول السياسية والتوجهات الفكرية والممارسات الثقافية.  
صحيح أن القضية الفلسطينية توحد الشعب وتقلل من حدة التناقضات بين فئاته وتوجهاته، لكن هذا لم يكن بالقدر المطلوب والمفترض، إذ إن حدة التناقضات السياسية والفكرية وصلت غير مرة إلى درجة الاقتتال.  
المهم أننا كفلسطينيين لدينا من النرجسية ما يجعلنا نعتقد بأننا مميزون عن سائر الشعوب، وأن نتوهم بأن قضيتنا هي الأهم في العالم، وأن شعوب الأرض وحكوماتها مطالَبة بالتضامن معنا وتأييدنا في كل شيء، وإلا كانت متخاذلة ومتآمرة!
وهذا وهم نرجسي عبّر عنه درويش قائلاً: «كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء»، وهذا مرض نرجو الشفاء منه..
السمة الأخرى والتي تشكل الجامع المشترك أننا شعب صعب الانقياد، وتاريخياً لدينا رفض فطري تجاه الاحتلال، وتجاه أي سلطة حاكمة.. وهذا أمر حسن جعلنا شعباً متمرداً وتواقاً للحرية ورافضاً للخضوع.. المشكلة أنه لدى كل جماعة، وكل حزب، وحتى كل فرد توهم يصل إلى درجة اليقين أنه يمثل الصواب الوحيد، ويمتلك الحقيقة النهائية، وبيديه وحده مفاتيح الحل.. ولذلك هو مستعد لإقصاء الآخرين، بل قد يكون راغباً بذلك، لأن الآخرين بالنسبة له عقبة أمام الحل، أو هم مجرد خونة ومتخاذلين.. وإذا لم يكن قادراً على إقصائهم فسيعمل على تشويههم وشيطنتهم، أو على الأقل الاستهزاء بهم، لأنَّ لا شيء يعجبه سوى ما يراه منسجماً مع ما استقر في عقله الباطن وما رسخ في وجدانه.
وهنا سنجد تأثيرات العاطفة، والأحكام المسبقة، والنظرة الأحادية، وعدم تقبل الآخر، مع ثقة مفرطة بالذات.. وهذه المحددات صارت منطلقاً ومعياراً وسبباً لتوجهاتهم وأحكامهم ونظرتهم للواقع. (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ.. سورة غافر 29).
مشكلة هؤلاء أنهم ينظرون إلى كل ما هو سواهم نظرة سلبية (أو معادية)، ضمن رؤية قاتمة متشائمة، تشيطن الآخر، وتعمل على تشويهه، أو تقلل من شأنه في أحسن الأحوال.
وهؤلاء يمكن تقسيمهم إلى نوعين، الأول: ينطلق من محددات ذاتية ونفسية لها علاقة بدرجة تشاؤمه أو تفاؤله، وبنظرته الأحادية. والثاني: ينطلق من محددات أيديولوجية وفكرية، لها علاقة بدرجة تقبله أو رفضه للخصوم ومن منطلقات سياسية وحسابات حزبية، أي أن الأول يتصرف بنوايا طيبة، حتى لو كانت نرجسية فهو يراها صواباً، أما الثاني فيتصرف وفق منهجية مدروسة ومخطط لها بعناية.. وفي الواقع يتداخل القسمان بطريقة مركبة ومعقدة، ويصعب تحديد أيهما يغذي الآخر.
وهؤلاء (يمكن وصفهم بالمتشائمين أو النرجسيين أو الحزبيين، ولك الخيار في ذلك) يعملون منذ عقود على تشويه كل ما هو جميل ومشرق في تاريخنا وواقعنا، يعملون بكد على إسقاط أي رمز، والانتقاص من أي حالة إيجابية، وشيطنة أي شخص لا يتفق مع هواهم وتوجهاتهم.. وهم بارعون في ذلك.
وقبل استعراض بعض الأمثلة، خاصة وأنّ أكثرها لأشخاص، لا بد من التأكيد على رفض تقديس أي شخص، مهما علا شأنه، والتأكيد على أن الاختلاف مع أو حول تلك الشخصيات أمر طبيعي ومشروع، بل ومطلوب أحياناً، فهم بشرٌ مثلنا يخطئون ويصيبون، ولديهم نقاط الضعف الإنسانية.. وللجميع حق وواجب النقد والاختلاف مع أي شخص وأي فكرة، شريطة رفض الشيطنة والتخوين والتكفير والأحكام المطلقة.
وفيما يتعلق بالرموز الوطنية والدينية، أنا شخصياً ضد ترميز أي شخص، وأعتقد أن إضفاء صفة الرمز على أي قائد هو من أمراض مجتمعات دول العالم الثالث، وأتمنى أن نصل إلى مستوى من التحضر يجعلنا نتعامل مع القيادات بوصفهم مواطنين وبشراً عاديين، دون تقديس ولا تبجيل.. ومع ذلك، أعتقد وبما أننا في مرحلة تحرر وطني ونخوض صراعاً سياسياً وحضارياً مريراً مع عدو مقتدر ومتفوق، من حقنا استعمال كل أدوات الكفاح، بما في ذلك «الرموز الوطنية»، بل من الذكاء توظيفها في معادلات الصراع بوصفها إحدى أهم
أدوات القوة الناعمة، مع ملاحظة أن عدونا أكثر من يوظف الرموز وأدوات القوة الناعمة في صراعه معنا، وحتى أميركا ودول الغرب عموماً ما زالوا يستخدمونها بأشكال وتعابير مختلفة.
وهناك فرق كبير بين الحالة الرمزية التي يشكلها شخص ما، وبين تقديس وتأليه هذا الشخص، بحيث لا يجرؤ أحد على انتقاده أو معارضته.. فمثلا «مانديلا» صار رمزاً لمكافحة العنصرية، و»غاندي» رمزاً للمقاومة السلمية، و»جيفارا» رمزاً لمناهضة الاستعمار.. لكن هذا لا يعني أن شعوب تلك الدول تجمع على حبهم، وتخشى من انتقادهم.  
مانديلا صار «أبو القارة الإفريقية»، مع أن بلاده يعمها الفقر والمرض، لكن شعبه جعل منه رمزاً وطنياً وعالمياً (قبل أن يحرز نصره، وأثناء مكوثه في السجن)، وكذلك غاندي.. وفي دول أميركا اللاتينية جعلوا من «بوليفار»، و»كاسترو» و»جيفارا» رموزاً وأيقونات وطنية وأممية مع أنهم دكتاتوريون ومستبدون.. لأن شعوبهم أدركت قوة الرمز وفاعلية الأيقونة في استنهاض الشعب، وتوحيد القوى المحلية، واستقطاب الدعم العالمي.
في مقال قادم سنرى كيف تعامل الفلسطينيون مع مسألة الرموز الوطنية.