تجاهل المخططون لعملية «طوفان الأقصى» حقيقة الكيان الصهيوني، ولم يقدّروا طبيعته المتوحشة، ولم يدركوا خطورة اكتمال التحول إلى أقصى اليمين في المجتمع الإسرائيلي، متجسداً في حكومة شملت كامل طيف اليمين الصهيوني الفاشي، الذي يحلم ليل نهار بالقضاء على الفلسطينيين، حيث أنَّ خطورة عملية السابع من أكتوبر، والتي فاقت كل العمليات العسكرية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، حتّمت أن يتعدّى ردّ الفعل الإسرائيلي بدوره كل ما سبق للجيش الصهيوني أن نفّذه من اعتداءات على غزة، وأن ينتهز أقصى اليمين الصهيوني فرصة «الصدمة الكبرى» كي يشرع في تنفيذ مخططه لتحقيق «إسرائيل الكبرى»، بمحو ما تبقى من فلسطين وإبادة شعبها قتلاً وتهجيراً، بادئاً بقطاع غزة.
أما الخطأ الثاني في الحساب، فكان في إسقاط الرغبات على الواقع، والرهان على المعجزات الإلهية، وأنَّ العملية ستفجر حرباً شاملة على إسرائيل، سيتجنّد فيها كافة الفلسطينيين أينما كانوا، والعرب والمسلمون.
اتخذ قرار الحرب بصورة فردية وارتجالية، ودون قيادة جماعية، ودون دراسة وإعداد مسبق وكافٍ، ودون مشاورة حتى الشركاء، ودون خطة إستراتيجية تأخذ بالحسبان جميع الحسابات والتوقعات والاحتياطات والخطط البديلة.. بالاعتماد على شعارات ثورية وقومية ودينية، والرهان على عناصر مساعدة ودعم سيأتي من الخارج، أو من الغيب.
لم يتم بناء تقدير موقف إستراتيجي على أُسس علمية وعسكرية.. وزيادة على المبالغة في تضخيم الذات، كانت استهانة كبيرة في تقدير قوة وقدرات العدو، وفهم طبيعته، وتحالفاته، وتوقع خططه.. وكان يتم الرهان على عناصر أخرى، تبين أنها غير جديرة بالرهان عليها، أو أنها مجرد أوهام وتمنيات.
الجماهير مجرد وقود للحرب، وقرابين للنصر، وأرقام يسهل التضحية بها، ولا قيمة هنا للحياة، وللإنسان وكرامته ولحقّه في الاختيار، ولا أهمية لمعاناتهم وخسائرهم المادية والمعنوية، ولا أهمية لمستقبل الشعب والبلد، المهم الحفاظ على الحزب الحاكم، وبنية المقاومة وقيادتها.
وقد رأينا كيف أعدت «حماس» خطة محكمة للهجوم، وكيف استعدت جيداً للدفاع، وكيف استبسل جنودها وأظهروا شجاعة فائقة، واستعداداً عالياً للتضحية.. لكنها أخفقت في جانب إستراتيجي بالغ الأهمية؛ حيث أنها لم تهتم بتأمين الجبهة الداخلية، ولم تحسب حساباً لما يمكن أن يواجهه الناس من آلام ومآسٍ.. لم تهتم بتأمين مستلزمات الحياة الأساسية وأدوات النجاة بما يمكّن الناس من الصمود ومواجهة تبعات الحرب.
وفوق هذا التقصير، دأب الخطاب الإعلامي لـ»حماس» على تجاهل الأعداد الهائلة من الشهداء ومعاناة الناس وعذاباتهم، وتجاهل الخسائر الفادحة التي أصابت كل مرافق الحياة.. مكتفياً بترديد الشعارات والخطابات الحماسية، والتأكيد على وجوب التضحية والصمود مهما بلغت الأثمان.. وفي خطاب للسنوار قال: «نحن في حماس ومعنا الشعب الفلسطيني جاهزون لأن نفنى جميعاً ولا أن نقبل الصفقة، وجاهزون لأن نُقتل عن بكرة أبينا، حتى آخر طفل فينا، وأن نُحرق نساء وأطفالاً كما حُرق أصحاب الأخدود ولا أن نتنازل عن ثابت واحد من ثوابتنا». أما قائد آخر فقال: «في كل مرة أقول وأكرر، إن دماء الأطفال والنساء والشيوخ لا أقول تستصرخكم؛ بل إننا نحتاجها لتوقظ فينا روح الثورة والعناد».
وفي الحقيقة يصعب فهم كيف أننا نحتاج دماء الأطفال والنساء لتوقظنا! وكيف تكون الحركة مستعدة وبإصرار على التضحية بهم، ودفعهم نحو الموت مقابل شعاراتها وثوابتها. وكيف نضحي بالشعب كله، حتى آخر طفل!
وفي مقارنة غير صحيحة، يجري التباهي بإجبار إسرائيل على إخلاء مستوطنات غلاف غزة والشمال، ومع أهمية ذلك، إلا أنه غير كاف، فشتان بين إخلاء المستوطنين إلى فنادق ومنتجعات ومنازل مريحة وآمنة، وبين نزوح أهالي غزة الإجباري، وفي ظروف مأساوية بالغة السوء والخطورة.
من بين مبررات «طوفان الأقصى» فشل مسار السلام والمفاوضات، وبالتالي البديل هو الحرب. علماً أن من أفشل مسار السلام وداس على اتفاق أوسلو بالدبابات هي إسرائيل، لأنها لا تريد السلام، فهذا المسار يضعها في مأزق وجودي، ويفرض عليها استحقاقات كثيرة تحاول دوماً التهرب منها، ولذلك تفضل الحرب على السلام، فهذا يتناسب مع طبيعة إسرائيل ودورها الوظيفي، ويلائمها لأنها دولة مدججة بالسلاح ومتخمة بالقوة، وتفضل المواجهات العسكرية على السياسية لأن الحرب والعدوان ساحتها المفضلة التي تمتلك فيها ميزة التفوق.
كما حدد خطاب محمد الضيف هدفاً مهماً ومشروعاً وهو إنهاء الحصار على غزة، والسؤال هنا: ألم يكن ذلك ممكناً بوسائل أخرى؟ مثلاً إنهاء الانقسام، وتسليم معبر رفح للسلطة الوطنية.
أما عن هدف تحرير الأسرى، فمن المؤكد أن قيادات «حماس» نفسها ترفض فكرة مقايضة نحو خمسة آلاف أسير (عدد الأسرى قبل الحرب) مقابل استشهاد نحو 50 ألف فلسطيني وتدمير غزة.. حتى الأسرى أنفسهم يرفضون ذلك، ولا شك أن حسابات «القسام» كانت مختلفة، ولم تتوقع كل هذه الوحشية الإسرائيلية، وبالتالي تحولت صفقة التبادل من هدف وسبب إلى إحدى نتائج الحرب، ومحاولة الخروج بمكاسب.
وفي سياق متصل، لا شك أن «طوفان الأقصى» أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة.. والسؤال الأول: من الذي تسبب بتغييب القضية أساساً؟ ألم يكن الانقسام وسوء أداء الجميع؟ ألم يكن ممكناً إعادة القضية إلى الواجهة بوسائل أخرى؟ ألم يكن ممكناً مجابهة العدو، ومقاومته شعبياً وعسكرياً والاشتباك معه يومياً ولكن بوسائل أقل كلفة؟
مثلاً إنهاء الانقسام، وإجراء انتخابات عامة، ودخول الكل في منظمة التحرير، وإعادة الاعتبار لها، وتقوية دورها.. إلخ. ثم التقدم بمبادرة سياسية ذكية وشجاعة تكسر حالة الجمود وتنهي الركود السياسي، سيما إذا كانت مبنية على وحدة موقف فلسطيني متفق عليه من قبل الجميع.
والأهم من إعادة القضية إلى الواجهة هو كيفية إعادتها، وبأي صورة، والأهم كيفية استثمار ذلك سياسياً.. فـ»طوفان الأقصى» ربما أتى بنتائج معاكسة، أي أنه أضعف الطرف الفلسطيني، وبالتالي صار في وضع أسوأ من السابق، وخلافاً لما يُقال إنه وجه أنظار العالم نحو فلسطين، وغيّر مفهوم القضية لدى العالم؛ فما حدث بعد ذلك أن إسرائيل تمكنت من تصوير نفسها أمام العالم وكأنها في موقع الدفاع عن النفس، وأنها الجهة المعتدى عليها وليس العكس، وصوّرت عدوانها في نظر العالم بأنه حرب مشروعة ضد «حماس» (التي يصنفها العالم على حد قولهم حركة إرهابية)، وليست حملة إبادة ضد الأرض والإنسان الفلسطيني، أو على الأقل حققت نجاحات جزئية بهذا الاتجاه.
يتبع..