قال فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية بمدرسة لندن للاقتصاد، في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” بأن حالة الجدل الفورية التي انتشرت بين الإسرائيليين بعد الغارة الجوية التي قتلت الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، كانت سابقة لأوانها. ويهدد التصعيد الإسرائيلي الدراماتيكي الحزبَ الذي تدعمه إيران بتوريط إسرائيل والولايات المتحدة في حرب لا نهاية لها، وهي نتيجة لن تجلب السلام والاستقرار لإسرائيل أو الشرق الأوسط.
ولا شك بأن حزب الله تلقى ضربات موجعة في الأشهر الماضية، فقد قتلت إسرائيل أربعة من قادته البارزين بمن فيهم نصر الله، إلى جانب العملية التي خططت لها بعناية لتفجير أجهزة البيجر والووكي توكي. إلا أن إزالة التهديد الذي يمثله الحزب على إسرائيل لا يمكن أن يتحقق عبر الوسائل العسكرية وحدها.
وبعيدا عن هدف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المعلن للعملية الحالية، أي إعادة 60,000 إسرائيلي نزحوا من الشمال، فلن تؤدي هذه التحركات العسكرية إلا لتقوية عزيمة عناصر الحزب في لبنان وخارجه. ومهما كان الشعور بالرضا الذي قد يشعر به أولئك الذين يريدون تدمير حزب الله بعد اغتيال نصر الله، فمن غير المرجح أن يؤدي موته إلى شل الجماعة لفترة طويلة.
فقد قتلت إسرائيل سلفه، عباس الموسوي، في عام 1992، والقائد الكبير عماد مغنية في عام 2008. ولم ينج الحزب فحسب، بل ازدادت قوته.
ومن الصعب أن نفهم لماذا سيكون الأمر مختلفا هذه المرة. وربما يكون الرجل الثاني بعد نصر الله، هاشم صفي الدين، وهو ابن خالة رجل دين والزعيم الراحل الذي شاركه رؤيته للعالم، قد أصبح الزعيم الفعلي والجديد للمنظمة.
ويرى جرجس أن إسرائيل أساءت أكثر من مرة تقدير العصبية في حزب الله أو التضامن الاجتماعي وكذا إرادته السياسية وعزيمته. فالحزب منظمة متجذرة في النسيج الاجتماعي والسياسي في لبنان. وقد أنشأ نظام رعاية اجتماعيا واسعا يوفر الغذاء والخدمات للمجتمعات في جميع أنحاء لبنان.
ولديه 13 نائبا منتخبا في البرلمان وحلفاء أقوياء في قوات الأمن. كما أن أيديولوجيته التي يهيمن عليها الشيعة مشبعة بفكرة الضحية والتضحية والاستشهاد، مما يحميها من الخسارة والإحباط.
ومنذ تأسيسه في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، صمد الحزب في وجه خسارة ليس فقط قادته الكبار، ولكن آلافا من المقاتلين والعناصر.
ويقول جرجس إن الولايات المتحدة تعلمت في العراق وأفغانستان أنه من الصعب القضاء على تمرد ملتزم أو مقاومة مكرسة للقتال. وحزب الله قادر باعتباره منظمة شبه عسكرية غير تابعة لدولة، على الاستمرار واستخدام الحرب غير المتكافئة لصالحه وشن حرب عصابات مستمرة تمنع إسرائيل من إعادة سكان الشمال سالمين.
ويرى الكاتب أن إسرائيل لديها وهمٌ بأنها تستطيع وبفعالية إضعاف حزب الله، كما فعلت مع حماس في غزة، لكنها مخطئة. ففي عام 2021، كان عدد مقاتلي الحزب 50,000 حسب تقدير، مع أن نصر الله تباهى بأن لديه 100,000 مقاتل.
وربما يحتاج الحزب فترة للتعافي من الضربات، إلا أن قواته تتفوق بشكل كبير على قوات حماس. كما يملك عشرات الآلاف من الصواريخ، وترسانة من الصواريخ الباليستية الموجهة. وعلى خلاف غزة المحاصرة، فلبنان لديه حدود مفتوحة مع سوريا، تعطي إيران الفرصة لتجديد ترسانة حزب الله من السلاح، وتسمح له بشن حرب طويلة.
وربما كان هذا جزءا من السبب الذي جعل إيران تساعد في إنقاذ نظام بشار الأسد أثناء الحرب الأهلية. وحتى لو لم تأت إيران لمساعدة حزب الله بشكل مباشر، فقد يتمكن الحرس الثوري من تنشيط ما يطلق عليه بمحور المقاومة، على الرغم من ضعفه، وكذا التنسيق مع المقاتلين الذين اكتسبوا خبراتهم العسكرية في سوريا والعراق واليمن للمساعدة في لبنان.
ونتيجة لهذا، فإن حزب الله، كقوة مقاتلة، أصبح في وضع يسمح له بالصمود حتى في مواجهة أشد الهجمات الجوية الإسرائيلية قوة. وأي “انتصار كامل” ضد الحزب سوف يتطلب من إسرائيل شن غزو بري للبنان، وهو ما يحدث الآن.
ويعني هذا تورط إسرائيل باحتلال طويل لأجزاء من جنوب لبنان على الأقل. وهذا لن يؤدي إلى خسائر فادحة بين الجنود الإسرائيليين فحسب، بل سيترك أيضا عواقب كارثية على السكان المدنيين في لبنان. وفي النهاية، لن تكون هناك ضمانات بالأمن لإسرائيل على المدى البعيد.
وكما أثبت التاريخ من غزو إسرائيل لبنان في حزيران/ يونيو 1982، والذي قاد لاحتلال جزء من الجنوب اللبناني لمدة 18 عاما، فإن الاحتلال كان فشلا إستراتيجيا وفتح المجال أمام صعود حزب الله، وأدى إلى مقتل آلاف المدنيين.
وأجبرت حرب العصابات التي قادها حزب الله، إسرائيل على الانسحاب عام 2000. وحصل نفس الأمر وإن بمستوى محدد في 2006. ويعلق جرجس قائلا إن “النصر الكامل” الذي يسعى إليه نتنياهو وحكومته على حزب الله لن يجلب الأمن الكامل الذي يريده الإسرائيليون ويحتاجون إليه. فمتى قررت إسرائيل وقف حملتها العسكرية، فإن ما سيبقى هو الملايين من العرب الذين أصيبوا بالصدمة بعدما شاهدوا إخوانهم وأخواتهم في فلسطين ولبنان يذبحون بطريقة فظيعة ودون خوف من العقاب.
ولن تهدأ هذه المشاعر بسهولة، وإذا لم يتم حل الأسباب الجذرية التي أدت إلى الصراع الحالي، أي استعباد الحكومة الإسرائيلية للفلسطينيين وحرمانهم من إقامة دولة مستقلة، فإن هذا لن يؤدي إلا إلى تعزيز الظروف المؤدية للمزيد من الصراع.
وفي ظل هذه الظروف، سوف تجد إسرائيل نفسها في مواجهة مستمرة مع مقاتلين متمرسين أصبحوا متطرفين بسبب المعاناة التي فرضتها عليهم. وعليه، فالطريقة الوحيدة لتجنب الكارثة والظروف التي قد تجر المنطقة إلى سنوات من الحرب، وبالضرورة جر الولايات المتحدة مباشرة إلى سفك الدماء، هي أن تخفف إسرائيل من التصعيد العسكري في لبنان، وتوافق على وقف دائم للنار في غزة.
وفي الوقت الحالي، يبدو هذا هدفا بعيد المنال. فرغم الدعوات المتكررة من عائلات الأسرى في غزة وقطاع كبير من الجمهور الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، رفض نتنياهو حتى الآن الموافقة وكذا حماس. ومع ذلك، فهذا هو الطريق الوحيد للأمام.
ولم تكن غطرسة إسرائيل في هجماتها على لبنان ممكنة بدون الدعم العسكري القوي والغطاء الدبلوماسي الذي قدمته أمريكا. وبهذه المثابة، لم تكن الولايات المتحدة صديقا حقيقيا لإسرائيل. ولن تعرف الدولة العبرية السلام الدائم حتى تعترف بأن أمنها يعتمد في المدى البعيد على المصالحة مع ملايين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. ويتعين على قادتها أن يتوصلوا إلى تسوية سياسية تسمح لإسرائيل أخيرا بالاندماج الكامل في المنطقة.
ومن هنا، فالتطبيع من أعلى إلى أسفل مع المستبدين العرب ليس كافيا، والمفتاح لوقف دوامة سفك الدماء التي استمرت لعقود من الزمان بشكل فتح المجال أمام إيران لتوسع نفوذها، هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومنح الفلسطينيين حق تقرير المصير.