كيف يموت الناس وهم نيام؟

الخميس 12 سبتمبر 2024 10:13 م / بتوقيت القدس +2GMT



الكاتب: سما حسن :

عندما كنا صغاراً، كان الموت والنوم بالنسبة لنا يحملان دلالة واحدة وهي عدم الشعور، لذلك فعندما كنا في مرحلة الألعاب التمثيلية نقوم بتمثيل دور الميت ونقوم أيضا بتمثيل دور النائم، وكلا الدورين يعنيان عدم الحركة، وعدم الإحساس بما يدور، وكنا نصوغ الأحداث الطفولية بناء على ذلك، فهناك لص متلصص يدخل وأهل البيت نيام، وهناك ميت يموت فجأة عندما يأتون لإيقاظه في الصباح، ولكننا أبداً لم نبلغ حد الخيال التمثيلي الذي يجعلنا نتخيل ان هناك انساناً قد يكون نائماً وفجأة يختفي ويتبخر، أو في لمح البصر يصبح في باطن الأرض.

بالنسبة لي، كنت عندما كبرت، أرى الأسى على وجه أمي والخوف على وجه جدتي التي تقدمت في العمر حين تتحدثان عن فلان الذي عَثر عليه أبناؤه ميتاً في الصباح، وكانت جدتي تحرص على أن أنام معها في الغرفة نفسها، وكنتُ ربيبتها واقضي معها معظم أيام الأسبوع، وتطلب مني ان أهزها عدة مرات خلال الليل لكي أتأكد أنها لم تمت أثناء نومها، أما أمي فقد كانت لا تزال شابة لكنها تشعر بالأسى على خبر وفاة أحدهم فجأة أثناء نومه، وبأنه لم يجد الفرصة لوداع محبيه او تلاوة وصيته الأخيرة.
كانت أمي طيبة ووصيتها الأخيرة تعني أن توزع أثاث بيتها وبعض المتاع والقليل من المشغولات الذهبية، وترى أن الموت أثناء النوم لن يمنحها الفرصة لعدالة التوزيع، لذلك كانت تشعر بالأسى وفي الوقت نفسه تتمنى أن تموت دون ان تُتعب او تُشقي أحداً في تمريضها ورعايتها.
اليوم وخلافاً لما كنا عليه من مشاعر خوف متواضعة اصبح لدينا ذلك الهاجس المرعب، وهو ان يموت أحبتنا في الخيام المهترئة غير الصالحة للعيش الآدمي في الأساس وهم نيام، أن يسقط صاروخ فوق القماش، تخيلوا ماذا يحدث حين يسقط الصاروخ فوق القماش وليس فوق الأسطح والأسقُف الأسمنتية، ماذا سيحدث للأجسام النائمة الباحثة عن فسحة من راحة بعد شقاء يوم طويل من أيام التشرد والنزوح، هل تخيلتم وذهب بكم الخيال إلى مصير هذه الأجساد التي أسلمت أمرها لله وبثت إليه قلة حيلتها حين بلغ بها التعب مبلغه، وقررت ان تلقي بنفسها على حشيّات بالية، وربما فوق حصير قديم ممزق الأطراف، وفي حالات كثيرة فوق الرمل مباشرة طلباً للنوم، ولأن النوم سلطان فهو سرعان ما يأخذك إلى عالمه، لكن هناك من يأخذهم سلطان النوم ويسلمهم إلى ملك الموت.
اكتوت قلوبنا واحترقت شر حرقة مع خبر اختفاء عشرات الجثث لأناس وعائلات كانوا نياماً في خيام متراصة في مواصي خان يونس، ولك ان تتخيل قطعة ارض فضاء لكنها مُحاطة بسور ربما كان بدائياً من سعف النخيل مثلاً أو من أقمشة بالية، فالمهم ان هذا السور هو وسيلة لتحديد الملكية في تلك المنطقة من غرب مدينة خان يونس، وحيث تمتلك بعض العائلات المعروفة قطعاً زراعية صغيرة ومسوّرة بهذه الطريقة، بحيث يعرف كل صاحب قطعة ما يمتلك، وبداخل هذه القطع من الأراضي كانت تزرع الفواكه والخضروات، بحيث تغطي احتياجات المدينة وضواحيها وتحمل اسمها الفعلي بأنها السلة الغذائية للمدينة، لكنها تحولت إلى مخيم نازحين متعبين وبؤساء وتعساء ومكلومين وفاقدين.
 نام اهل الخيام في هذه الأرض الفضاء ولم يكونوا يعرفون ما ينتظرهم، وربما حلم اكثرهم باليوم الذي ستقف فيه هذه الحرب المجنونة، وربما حلم البعض كيف ستعود هذه الأرض الصغيرة لتصبح جنة خضراء حين يغادرها أصحاب الخيام إلى بيوتهم او إلى ما تبقى من بيوتهم.
في لحظات قليلة اختفى كل شيء ومات الجميع نياماً، هكذا من النوم إلى الموت، هناك من تحولوا إلى أشلاء وهناك من دُفنوا على بعد ما يزيد على عشرة أمتار من سطح الأرض، وهناك من تبخروا بفعل حرارة المواد الحارقة التي صنع منها الصاروخ والتي تذيب اللحم والجلد والعظم، واصبح اسمهم المتبخرين.
هكذا ماتوا وتبخروا وتقطعوا ودُفنوا وهم نيام، ولو كانت أمي على وجه الحياة لكانت قد شعرت بأسى لا يوصف، ولأصابتها حرقة قلب لا تنطفئ، ولو سمعت جدتي بما حدث لهؤلاء البائسين فمن المؤكد أنها كانت ستكره النوم، ذلك النوم الذي يجعلك تموت ميتة لا توصف.