سياق الحرب.. الانتصار وسيمفونية الوهم!! م. عبد الله حَجَّاج

الثلاثاء 09 يوليو 2024 12:24 م / بتوقيت القدس +2GMT



الكاتب : باحث بمعهد (بيت الحكمة) للدراسات وتحليل السياسات- غزة

دائماً ما تختلط مفاهيم الدين بالسياسة، نظراً لاختلاف الخلفيات والقواعد التي تحكم الداعية بقراءاته الدينية المحضة والسياسي بانفتاح أفقه وما تفرضه عليه طبيعة المهمة من حِنكة ومرونة في سياق المصلحة العامة.

ولعل ما نتناوله في هذا المقال يأتي بغرض توضيح التباين بين منطقين أو منهجين في القراءة والتحليل سواء بعملية الاستقراء أو الإقرار. وهنا يلزم التعريج على طبيعة الخطاب الدائر في مشهدية التعاطي مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما يصاحبها من جدليات الحوار حول النصر والهزيمة.

"لماذا لا ينصرنا الله؟!"

كثيرا ما يتردد هذا السؤال؛ في ظل الحرب الدائرة في قطاع غزة وتزايد طغيان الاحتلال وتوسعه في استباحة الدماء، واستمراءمساحات الدمار والخراب في كافة أرجاء القطاع..

يتساءل المواطن البسيط "المتدين بطبعه"، لماذا لا ينصرنا الله ونحن المسلمين أصحاب الأرض وأصحاب القضية العادلة.. بينما الاحتلال الذي يحارب الدين ويدنِّس المقدسات ويعتدي على الحقوق ينتصر؟!

ألم يقل المولى سبحانه: "وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين"؟

الجواب على هذا السؤال ببساطة: إن الله (عزَّ وجل) وضع سنناًونواميس في هذا الكون، لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول، ولا تُحابي أحداً (ولن تجد لسُنّة الله تبديلا)..

فالله (سبحانه وتعالى) جعل للنصر عواملَ وأسباب، لا يمكن العمل بمعزلٍ عنها، ففي منطق السُنن والرؤية الحكيمة جاء في الحديث (اعقلها وتوكل).

من هنا، نأخذ توجيهاً نبوياً واضحاً: لا يكفي أن نقول نحن مؤمنين وواثقين بالله ومتوكلين على الله، بل لا بدَّ من أن نعقلها، فهل عقلناها؟

إذا قفز شخصان إلى البحر، أحدهما مؤمن والثاني كافر، فالذي سينجو منهما ليس المؤمن وليس الكافر، بل -ببديهة- الذي يعرف السباحة والتجديف وصولاً للشاطئ!

البعض لا يقبل هذا المنطق ولا يستطيع هذا القول، محتجاً: "بل نحن منتصرون، فنحن أصحاب الحق "وإنَّ الله معنا"!

إنَّ الدفاع عن القضية والتمسك بها، لا يعني أن نكون غير واقعيين..

فكونك صاحب الحق، ليس بالضرورة أن يجعلك المنتصر، فالحقوق لابدَّ من قوةٍ تنتزعها وإلَّا ضاعت وبقيت مسلوبة، وقديماً قالوا: لا يكفي أن تكون على حق بل قوياً أيضاً.

للأسف، هناك مشكلةٌ فيمن يخلط بين الأمرين، والزعم بأننا الآن في حالة من الانتصار، وأنَّ إسرائيل في حالة من الهزيمة والتقهقر، ولسان حالهم: نحن أصحاب الحق وأصحاب الأرض، وإسرائيل بُنيت على الباطل (وما بني على الباطل فهو باطل)!

لا ينبغي ألا يتعثر وعي الإنسان بالخلط في معادلة تحكمها النواميس والسُنن؛ فصاحب الحق، عليه امتلاك زمام القوة والغلبة،وهذه أحد أبجديات الانتصار، وإلا سنبقى أسرى للشعارات والأوهام؛ "كسرابٍ بقيعةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً"!!

إنَّ منطق التدليس الذي يمارسه البعض بعيدٌ كلَّ البُعد عن الواقع، وهو -مع الأسف- جزءٌ من تغذّية الوهم وتسويقه، وهو أسلوبٌ درجتعليه الكثير من الحركات الحزبية والفصائل المؤدلجة داخل مجتمعاتنا العربية منذ النكبة الأولى وحتى يومنا هذا، سواءً فيما يخصُّ قضيتناالفلسطينية أو غيرها من قضايا الأمة العربية والإسلامية.

والغريب العجيب أنَّ بعض من ناقشتهم في هذه المسألة يقارنون الحالة في غزة بالحالة في فيتنام!!  صحيحٌ؛ انتصرت المقاومة الفيتنامية على الاحتلال الأميركي، وذلك لاعتبارات الكلُّ يعرفها ولم يكن الدين طرفاً فيها أو في سياق الاجتهادات.

إنَّ محاولة الربط بين حالة وأخرى يتوجب التعاطي معها ضمن جدلية (القوة والانتصار)، والقراءة للتداعيات والعواقب.

إن هناك الكثير من المقارنات الخاطئة والتوظيف اللامنطقي للآيات والاستخدامات المستفزة لها تأتي -للأسف- في سياق سيمفونية الوهم وتغذية عقول البهاليل به.

وبناءً على ذلك، فإنَّ مقارنة انتصار المقاومة في فيتنام كمشهد للاستشهاد بمآلات ما هو متوقع حدوثه في غزة، والعمل على توظيف آيات الغلبة والانتصار لتعزيز ذلك، إنما هو تسليم بفرضية خاطئة لا تستوعب منطق النواميس والسُنن. ختاماً.. إنَّ هذه المقارنة التي يلجأ إليها البعض تعاني ولا شك من قصور واضح في تصور الواقع، فالحكم على الشيء فرعٌ من تصوره، فالتصور الخاطئ يعطي حكماً خاطئاً؛ أبجدية نتغافلها كثيراً..

فالواقع في فيتنام يختلف تماماً عن الواقع في قطاع غزة؛ فقد كانت المقاومة ممثلة بالحزب الشيوعي في فيتنام مدعومةً بشكلٍ كامل من العملاقين الدوليين (الاتحاد السوفييتي والصين)..

فمن يدعم المقاومة في قطاع غزة؟ ومن يقف إلى جانبها من رسميَّات العرب والمسلمين؟!!

وهل هناك في فضاء الجوار دولة واحدة تجرؤ على دعم المقاومة في قطاع غزة؟!

إضافة لما سبق، فإنَّ الطبيعة الجغرافية في فيتنام والتي تنتشر فيها الغابات والجبال التي تشكِّل سواتر طبيعية كانت تساعد في تحركعناصر المقاومة الفيتنامية، وهذا يختلف تماماً عن طبيعة قطاع غزة، المنكشف جغرافياً بشكل كامل لسلاح الطيران الإسرائيلي..

الخلاصة أن المقاومة الفيتنامية –الشيوعية– أخذت بأسباب النصر فانتصرت.

صحيحٌ، أن الدين عامل تحريك فاعل للمقاتل في الميدان، لكنَّ هذا لا يكفي لتحقق أسباب النصر، فكيف لصاحب عصى أن يواجه من بيده بندقية؟! وكيف لبعض الشباب في قطاع غزة المسلحين برشاشات خفيفة أو قذائف بسيطة أن يواجهوا أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط مدعومةً من أعتى قوة عسكرية في العالم؟

في الحقيقة، نحن هنا لا نقلل من جهد المقاومة، ولا من شجاعة المقاومين الذين أظهروا بسالة منقطعة النظير في التصدي للعدوان،وأوقعوا الخسائر الكثيرة في صفوف جنود وآليات الاحتلال، ولكننا نتحدث هنا عن الصورة العامة للمشهد، فهذه المقاومة لا تستطيع وحدها بدون عمقها العربي والإسلامي التصدي لهجمة استعماريةبهذا الحجم من القوة الغاشمة، ومن عدوٍ يقف خلفه هذا التحالف الغربي الكبير..

وإذا كانت إسرائيل بكلِّ ما تملك من عتاد وعدة احتاجت لدعم الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وغيرها، فكيف بنا نحن؟!

في الختام، ينبغي علينا أن نفهم ونتفهم سنن الله (عزَّ وجل) في كونه، وألَّا نقع ضحية للشعارات أو المفاهيم الخاطئة التي سكنت عقول البعض للدين والسياسة.

وحتى لا نبقى ضحيةَ الوهم الذي تحاول تسويقه بعض الحناجر وبثَّه في العقول والقلوب، فالوهم -للأسف- يتراكم مع الزمن، وتُصبح إزالته أصعب كلما ازداد توغلاً في النفوس.

وصدق الشاعر حين قال:

قصورُ الوهمِ تعلو ثم تعلو.. وترمُقُها الحقيقةُ بازدراء

وتسكنها تَظنُ بِها أماناً.. ولا تدري بِأنكَ في العَراء

فتقذِفكَ الرياح بكلِ شرٍ.. وتذروكَ العواصفُ في الفضاء

وحين تُفيقُ لا تلقى قُصوراً.. وتُبصِرُها هباءً في هباء

تعيدُ الكرةَ الحمقاءَ دوماً.. برملِ الوهمِ تُسرِعُ في البناء

أعذروني يا أولي الألباب.