نصل في ختام هذه المعالجة إلى مركزية المحرقة، ومكافحة العداء للسامية، في خطاب الغرب الأوروبي والأميركي. المركزية بتجلياتها الفعلية، ودلالتها السياسية، وتداعياتها الثقافية، ظاهرة جديدة، مقارنة بما كان عليه الحال في زمن الحرب الباردة. ومن المؤسف، حقاً، أن قدراً كبيراً من سوء الفهم يعرقل كل محاولة محتملة لفهم هذا الأمر في الحواضر العربية.
نجد، في سياق رصد وتشخيص وتفسير الظاهرة المعنية، بين المعلقين مَنْ يلقي باللائمة على عاتق المركزية الأوروبية، والخلل القيمي البنيوي في صميم الليبرالية الغربية. بينما يُفسّر الأمر عند البعض بكراهية متوطّنة، وميول عنصرية. ومن فتات هذا وذاك، يفبرك الإسلاميون مرافعات جاهزة، ومتعددة الأغراض، عن "العداء للإسلام".
وأعتقد أن مصدر الخلل، في هذا الصدد، هو الفشل في استنباط فرضيات جديدة على قاعدة الارتباط الشرطي بين نهاية الحرب الباردة، وصعود الظاهرة الجديدة، وكذلك التسليم مسبقاً بالإطار العام لحدود ومفاهيم جعلها "الغرب" شروطاً إلزامية للتفكير في المحرقة ومسألة العداء للسامية.
ونبدأ التحليل، هنا، بالنقطة الثانية، أي التسليم بالإطار العام، الذي لا يتم التمييز فيه بين العداء التقليدي للسامية، وتجليات جديدة صارت تُصنّف بهذا المعنى. ولا غنى عن التمييز، في هذا الصدد، لأن العنصرية، وما يدخل في حكمها من تفوّق أو دونية الأعراق، كانت شائعة على نطاق واسع، في أوساط اجتماعية مختلفة، وفي الثقافتين الشعبية والعالِمة، في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية.
وفي سياق كهذا، كان من الممكن العثور على تعريف للسود في طبعة المعجم الفرنسي لاروس في العام 1932 مفاده أنهم في مرتبة وسطى بين القرد والإنسان. وبالقدر نفسه، كان العداء لليهود مكوّناً عضوياً من مكوّنات هذه العنصرية.
ومن حسن الحظ، طبعاً، أن تلك العنصرية قد انتهت إلى مزبلة التاريخ. والأهم أنها لم تعد شائعة، أو متداولة، أو مقبولة من جانب الغالبية العظمى من بني البشر، وإذا وُجدت في مجتمع ما، فهي لقى أحفورية، وهامشية، في كل الأحوال. يمكن على خلفية كهذه فهم التوسّع، لأسباب سياسية، في تعريف العداء للسامية في العقود القليلة الماضية (وهذا موضوع آخر).
والمهم أن النقطة الثانية تمثل مدخلاً لتحليل الارتباط الشرطي بين نهاية الحرب الباردة وصعود مركزية المحرقة، ومكافحة العداء للسامية في النسق السياسي والثقافي الغربيين. ولنقل: حرّضت نهاية الحرب الباردة، وبالطريقة التي تمت بها، على بلورة تصوّرات مختلفة بشأن "اليوم التالي"، أو "وماذا بعد". تندرج في هذا المعنى أعمال من نوع "نهاية التاريخ" لفوكوياما، و"صراع الحضارات" لهنتنغتون. كلاهما معروف على نطاق واسع. ولا يعنينا نقد ونقض العملين المذكورين، في هذا المقام، بل التذكير بحقيقة أن كل كلام محتمل عن "اليوم التالي" أو "ماذا بعد" كان وما زال كلاماً، في الجوهر، عن معنى هوية وخصوصية الغرب.
وبهذا نكون قد اقتربنا خطوة إضافية. فما يسم صعود مركزية المحرقة، ومكافحة العداء للسامية، من حماسة بالغة، في خطاب الغرب الأوروبي والأميركي، يجد ما يبرره في علاقته العضوية بأسئلة الهوية والخصوصية. وبما أن "اليمين" في تلك البلاد (وفي كل مكان آخر) هو الأكثر انشغالاً بالهوية والخصوصية، صارت أولوية ومركزية العداء للسامية، والاستثناء الإسرائيلي، في الصياغة المُثلى للهوية، بوليصة تأمين "اليمين" الأيديولوجية وعلامته الفارقة، لا للانتقال من الهامش إلى المتن وحسب، وبل ومصادرة الكثير من الرصيد الأخلاقي للديمقراطيات الليبرالية، أيضاً.
ولا أعتقد أن أحداً من نقّاد الظاهرة المعنية، في الغرب، قد تمكّن من تشخيصها وصياغتها بطريقة أوضح من المفكر الفرنسي اللامع ألان باديو، الذي ذهب إلى حد القول: إن المعنى العميق للتلويح بتهمة العداء للسامية، يتمثل في الدفاع عن الغرب، بعدما هشّمت حروب التحرر القومي (تُسمى حروب التحرر الوطني في لغة السياسة العربية، أيضاً) مكانته الأخلاقية. وما يضفي على تحليل باديو أهمية استثنائية، فعلاً، أنه يضع هذا كله في سياق تشكّل هوية (أو قومية) أوروبية جامعة، في عالم ما بعد الحرب الباردة. (أذكر هنا هذيان وهستيريا أوريانا فالاتشي بعد الحادي عشر من سبتمبر).
يصعب التنبؤ بتحوّلات الهوية المعنية، ولكن، وبقدر ما تبدو الآن وهنا، فإن الحادي عشر من سبتمبر، وصعود الأصولية الإسلامية، وأعلى مراحلها الوحش الداعشي، وتسارع موجات الهجرة الآسيوية والأفريقية واتساع نطاقها في أوروبا على نحو خاص، وعولمة مراكز التوزيع والإنتاج، وما نجم عنها من أزمات طالت النظام السياسي ومجتمعات الغرب الأوروبي والأميركي، تجعل مجتمعة من "صراع الحضارات" إطاراً موضوعياً لتشكّل الهوية، كائناً ما كانت، وبوصفها صياغة أيديولوجية، أيضاً.
في "صراع الحضارات" الجديد يحتل "المسلم" دور الآخر بامتياز. وثمة ضرورة في هذا الصدد لتذييل كل كلام في هذا الجانب، بالذات، بما يشبه التحذير. "فالمسلم"، الذي نضعه بين مزدوجين، للتدليل على التباس المفهوم، حمولته الدلالية، ليس ضحية مثالية، بل أسهم، بدوره، وما زال، في "صراع الحضارات"، وفي كل محاولة لإعفائه من المسؤولية ما يصب الزيت على نار الصراع.
لذا، وبناء على كل ما تقدّم، وعلى هديه، يمكن أن نضع مركزية المحرقة، ومكافحة العداء للسامية، في إطار التاريخ، وفي وسعنا تشخيص الأمر، وتفسيره، بلغة السياسة وأدواتها، لا بالكلام عن ازدواجية المعايير، وكراهية "المسلمين".. فاصل ونواصل.