ستقف الحرب مهما كانت نتائجها، ليعيش من يعيش من الفلسطينيين ومن العالم، ليتأمل فقط فيما كان، وفي مدى إمكانية ما سيكون فعلاً. وهل سيكون سهلاً على جميع البشر نسيان هذا القتل الدموي والتدمير الشامل؟ هل من الممكن فعلاً الحديث عن التطبيع مثلاً مع ساسة دمويين؟
استخلاص: إن لم ينضج المجتمع اليهودي بعد هذه الحرب الشرسة بالاتجاه نحو تسوية عادلة تضمن كرامتنا جميعاً، فلا معنى إذاً لأي حديث، وفقط سيكون الرد بحرب وراء حرب ندفع جميعاً ثمنها. لقد آن أوان النضج من عقود، لكنه الآن صار حتمية وجودية.
كنت طفلاً قروياً في أوائل السبعينيات؛ فلم أكن لأفسّر حزن الأقارب وأهل البلد يوم العيد، لم أكن أعرف أن حرب عام 1967، كانت ما زالت طازجة التأثير، كما لم أكن أعرف أن عمتي أديبة رحمها الله إنما كان حزنها على ابنها الذي استشهد عام 1968، كيف لطفل صغير يعرف تلك التفاصيل؟ فكل ما يسمعه: حطات الجيش، طواقي الجيش، واحدة منها صارت وعاء ماء للحمام في بيت الجيران، حرب الأيام الستة، وارتباط أسماء أهل البلد النازحين بعمان. ثم لنكبر حيث شاء القدر ذلك، لتزداد الأسئلة والأجوبة. ثم لنشهد حروب إسرائيل المحتلة على جنوب لبنان، وصولاً لحرب عام 1982، التي كانت أيضاً على اللاجئين واللبنانيين أيضاً، بحجة وجود المقاومة.
سؤال مؤلم ظل يراودني في حروب إسرائيل علينا: لماذا تواصل دولة الاحتلال حربها على اللاجئين غير مكتفية بتهجيرهم عن أرضهم؟ وهل تعويضهم كما نصت أدبيات الأمم المتحدة يتم عبر اللحاق بهم في لبنان وغزة لقتلهم؟ هل كان القتل المستمر هو قتل الفدائيين والمقاومة؟ أم هو قتل اللاجئين والمقيمين؟ لقد أثبتت كل الحروب الهمجية ان الحروب انما كانت على البشر، فلم تنته المقاومة، فهي جيل وراء جيل، موجات من العاشقين للوطن والراغبين بوعي بإقامة دولتنا المستقلة، والمؤمنين بالعودة إليه أيضاً.
وها هي حرب الاحتلال على قطاع غزة، الذي ما زال يقتطع، تثبت لمن يملك بصراً وبصيرة في الحد الأدنى منها، أنها على الإنسان وممتلكاته وأرضه ومزارعه ومائه.
لم تكن الإنسانية لتحضر في الفكر الإسرائيلي أبداً، لا الرحمة بالمدنيين، ولا بغيرهم من شجر وحيوانات. إن الإلحاج الإسرائيلي على جعل قطاع غزة مكاناً لا يصلح للعيش بهدف الترحيل الطوعي "حسب وصف بن غفير"، سيجعل إسرائيل فعلاً مكاناً لا يصلح للاستيطان.
قبل بضعة عقود، كنا نرى بعض المعارضين لما تفعله المؤسسة العسكرية، ولكن وصل المجتمع في دولة الاحتلال حداً لا يطاق بعد أن نخره اليمين؛ فمنذ بدء الحرب لم نشهد احتجاجاً ضد الحرب على الفلسطينيين، وضد المجازر الرهيبة التي يقترفها "الساسة والعسكريون والأمنيون"؛ فكل التظاهرات التي نراها هدفها الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ليس أكثر، أما عن شعب يباد فليس ذلك بمحرك لا المشاعر ولا الأفكار.
تلك عقدة ازدادت تعقيداً داخل مجتمع المستوطنين في فلسطين المحتلة، فلم ينضج لا الحاكم ولا المحكوم حتى الآن، بضرورة تسوية الصراع بالعودة الى أصوله. لقد خفت الجماعات الصغيرة التي كانت تؤمن بتسوية ما، ولفظت أنفاسها.
جدل إسرائيل لم ينضج، فهم منقسمون بين هذا وذاك، وكلاهما لن يحل الصراع، ماذا نفسّر استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، أن 42% من الإسرائيليين يفضلون زعيم حزب الوحدة الوطنية بيني غانتس لرئاسة الوزراء لو جرت الانتخابات اليوم، مقابل 35% يفضلون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو؟ كذلك ماذا نفسّر استطلاع "القناة 12" الإسرائيلية، الذي أظهر أنّ 30% فقط من المستطلعين يرون أن الاعتبار المركزي لدى رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، في قراراته وتوجهاته، هو "مصلحة الدولة"، و61% منهم رأوا أن لنتنياهو اعتبارات شخصية وسياسية داخلية؟ نتساءل نحن الفلسطينيين، ماذا يفيد ذلك؟
قبل بضعة أيام نُشر في اليوم العالمي للاجئين تقرير عن اللاجئين الفلسطينيين، الذين وصلوا الـ 6 مليون وزيادة، فهل هذا التقرير يحرك ساكناً في ضمير الإسرائيليين؟.
لو نوى الإسرائيليون التفكير لفكروا، فقد حسموا أمرهم جميعاً ليس في التفكير في الاستلاب الذي مارسوه في الماضي، بل بما واصلوا السير على نهجه، إن ذلك يؤشر فعلاً على المنظور اللاإنساني المسيطر على فكر المجتمع الاستيطاني، وهل كانت حكومات إسرائيل إلا نتائج انتخابات؟
هذا هو الطرف الآخر، طرف ما زال لا يرى غير نفسه، لقد كان بالإمكان أن يتحرك الشارع الإسرائيلي ليرفض الحرب على المدنيين الفلسطينيين، بجانب الطلب بعقد صفقة تبادل للأسرى، لقد فوّت المجتمع في دولة الاحتلال فرصة مهمة في تاريخ الصراع، ألا وهي استنكار قتل الشعب الفلسطيني، غير مدرك أن ذلك سيعود عليه بالخراب النفسي وجميع أنواع الخراب؛ "فدار الظالمين خراب يا سيدي"، هكذا ردد جدي حسن المثل الشعبي، والذي سبقه ابن خلدون بقرون حين قال ان الظلم منبئ بخراب العمران. لكن لا حكمة هنا ولا رحمة، ولا إنسانية، فحتى لو توقفت الحرب، فكيف سيعيش الكل ويتعايش مع الذين يحكمهم منطق الغزاة قديماً وحديثاً؟
استخلاص آخر: لم تعد الشعوب خائفة.
ولعل بيت شاعرنا العظيم راشد حسين عن ثورة الجزائر: سنُفهم الصخر ان لم يفهم البشرُ أن الشعوب إذا هبت ستنتصرُ، يجعلنا هنا نفهم الشعوب، بأنها شعوب العالم وليست فقط شعب الجزائر وشعب فلسطين، ألم يصبح العالم اليوم قرية؟
تحررت الجزائر، وتتحرر فلسطين، وبتحررها سيتحرر العالم، بما فيه شعوب الدول الحليفة للاحتلال.
Ytahseen2001@yahoo.com