خبر : فيلم 'الدّواحة' للمخرجة رجاء العماري: من القمع إلى الحرية الدموية ...أنسي اليوسفي

الثلاثاء 12 يناير 2010 12:22 ص / بتوقيت القدس +2GMT
فيلم 'الدّواحة' للمخرجة رجاء العماري: من القمع إلى الحرية الدموية ...أنسي اليوسفي



    تونس ـ فيلم رجاء العماري الجديد ’الدواحة’ فريد من نوعه ومستقل بذاته عن بقية الأفلام التونسية التي عرضت في الآونة الأخيرة. يتناول هذا المقال مدى نجاح العماري في تحقيق هذه الاستقلالية مع تحليل عناصر الفيلم.يجب التنويه منذ البداية بأن السيناريو في حد ذاته برهن على براعة في التعامل مع عناصر اللغة السينمائية فكانت أول مفاجأة مع التغيير الملحوظ في المشهد العام للفيلم: بيت قديم مهجور يشير إلى ثراء أهله لكن عزلته تحمل مفتاح أحداث الفيلم. فجاء توظيف البيت كـ ’فضاء’ في صالح السيناريو.اختيار رجاء لممثليها كان موفقا في الاعتماد على وجوه ’جديدة’ أجادت التمثيل. اختيار موفق وجريء أيضاً. فهذا المزيج بين أوجه جديدة وأخرى مألوفة يحمل أهمية للمخرجة ولللمشاهد في آن: الفيلم هو السيناريو بدرجة أولى والممثلون بدرجة ثانية؛ أي أن الممثلين مجرد ممثلين برعوا في أدوارهم. هذه النقطة تنقلنا إلى موضوع آخر وهو القمع الممارس والمشاهد: القمع الممارس هو القمع الذي تخلصت منه العماري والذي طالما مارسه السينمائيون (من مخرجين وممثلين) عن طريق احتكارهم للشاشة الكبيرة فجاء الفيلم مناسبة للمشاهد كي يتعرف على ’وجوه جديدة’ ويخوض معها مغامرة جديدة وفريدة من نوعها.تم نقل الكلمات من السيناريو إلى صور في الفيلم بطريقة ’احترمت’ رغبات هذا الأخير. فمثلا النص أتى في شكل مجموعة من ’الفوبيات’ استطاع السيناريو أن يحتويها، بل أن ’يسرقها’ فكان البيت المهجور رمزا للوحدة وطريقة لخلق هذا الجو الضيق المتأزم، يحكم قبضته على أشخاص مرعوبين ومهلوسين.اعتماد الفيلم على التحليل النفسي كطريقة مقاربة جعل ’الدواحة’ يسبح في مستنقع عميق. الفيلم يروي باختصار تحرر شخصية عائشة (حفصية الحرزي) من قمع مارسته عائلتها عليها منذ الطفولة عن طريق اللجوء إلى الترهيب والعقاب وغيرهما من الأساليب... هذا ما جعل الفيلم يقع في فخ التحليل النفسي. فكان يتأرجح بين لحظات وأوقات ’شديدة’ وأخرى سطحية. والتحليل النفسي مقترن بالرمزية أيضا. هذا ما أكد عليه الفيلم: من أهم الأهداف الرمزية دفع المشاهد إلى ملاقاة الفنان في منتصف الطريق بدل أن يقدم له هذا الأخير كل شيء على طبق من ذهب من دون مجهود. لكن في نفس الوقت يجب التعامل مع هذه الرمزية بحذر نظرا لكونها تمثل ارضًا رخوة تحتم علينا الحذر من أي خطوة قد تهوي بنا إلى أعماق لا تحمد عقباها. فمثلا في رأينا أن بعض الأفكار التي اقترنت مع الفيلم لا يجب التسليم بها ولا حتى أخذها على محمل الجد. فمثلا النسوة الثلاث يعشن في رعب وحذر شديدين؛ إنها حالة أقرب ما تكون إلى التهكم. والفكرة المراد دحضها هي أن هذه الحالة ترمز إلى المرأة العربية في مجتمعاتنا. ومن المؤكد أنها تعبر- إلى حد ما- عن وضع معين، غير ان الفيلم ليس إلا فيلما مبنيا على قصة خيالية أي بتعبير آخر: الفيلم عبارة عن مرآة مضخمة مبالغة هدفها إمتاع المشاهد وإغواؤه، وطبعا خدمة عناصر الفيلم من نوع ’الثريلر’.وينطبق هذا الأمر كذلك على فكرة القمع الجنسي؛ صحيح أنه ما زال من المواضيع المحرم الخوض فيها إلا أن هذا الموضوع تم دفعه إلى ابعد ما يمكن عن الواقع وأقرب ما يمكن من المغالاة. بالمقابل طرحت مواضيع خلال أحداث الفيلم حملت معانيَ أهم وكانت أقرب للواقع نذكر منها الرهبة / الخوف من الآخر: الآخر هو المشكل، الخطر، وبالتالي يجب انتظار زواله أو في مرحلة متقدمة إزالته. هذا الخوف هو أقرب للواقع حتى لو نظرنا إليه من خلال مرآتنا المضخمة. الأسرار تمثل صلب السيناريو: بالرغم من أننا نفضل أن نترك أسرارنا لأنفسنا: فإن بعض الأسرار يمكن البوح بها وكتمان بعضها الآخر. يبدو أن هذه هي الرسالة التي يريد الفيلم تبليغها. فمثلا العيش في كتمان وسرية بطريقة هامشية أقل خطرا من فضح الخداع والوهم اللذيْن تعيشهما الشخصيات: لقد دفع الفضول بعائشة إلى كسر الحصار المفروض عليها وذهبت كي تطلع على حفلة ليلية أقامها الثريّ مالك المنزل الحقيقي. لكن ما إن تعود حتى تفاجأ بأمها (وسيلة داري) التي بدأت تتفحص عذريتها... إنه سر اغتصب من الطفلة كي يصبح ملك الأم ’السلطة العليا’. البنت الأخرى راضية (سندس بلحسن) تمارس العادة السرية في الحمام خفية؛ هو سر محرم على أختها عائشة: ’نعرف فيش قاعدة تعمل أُخرج’. وعندما تكتشف عائشة أن الطفل المدفون ليس إلا كلبا تتسارع الأحداث وتتوتر...ولو أردنا أن نقرأ هذه الأسرار قراءة أخرى لاستطعنا القول إن بطلاتنا الثلاث يمثلن صراع الطبقات: الطبقة المضطهدة (عائشة) التي في نهاية الفيلم تثور بعنف ضد السلطة (الأم) إضافة إلى أن الفيلم يمكن اعتباره نموذجا مصغرا للمجتمعات العربية: فمواضيع كخداع الآخر وخداع النفس، والوهم الذي يصبح حقيقة، والهامشية، والخوف من الآخر، وتوظيف الإتيك (الأخلاق) الخ... ليست إلا مواضيع حقيقية لا تحتاج إلى أي مرآة مكبرة. لكن ربما من المستحسن ألا نغامر أكثر في هذا التحليل كي لا نبتعد عن خيار العماري المتمثل في المقاربة السيكولوجية. وفي الختام؛ يمكن القول إن رسالة الفيلم تتلخص في ضرورة التعامل بحذر مع القمع لأن نتيجته في النهاية، كما رأينا في الفيلم،(وكما سبق أن قتلت الكترا أمها) كانت النهاية مع عائشة قاتلة ومدمرة. فعائشة سافرت من طرف إلى طرف آخر: من قمع لامس السخرية في صلابته إلى حرية دموية مفرغة من أي معنى: حياة أخرى قدرها الضياع.