(الأطفال السّجل الحقيقي لحفظ الذاكرة الفلسطينية)

هل تنجح إسرائيل في اغتيال الذّاكرة الغزّية؟

الخميس 21 مارس 2024 04:55 م / بتوقيت القدس +2GMT
هل تنجح إسرائيل في اغتيال الذّاكرة الغزّية؟



كتبت سماح خليفة:

سماح خليفة
“الكبار يموتون والصغار ينسون” عبارة ميكافيليّة عارية من الصّحة، أطلقها (ديفيد بن غوريون) أول وزير إسرائيلي، خلال أحداث النكبة عام 1948م، ليَثبُت مع مرور الزّمن أن الصغار الفلسطينيين لم ولن ينسون قضيتهم، وأن محاولات هذا الكيان تبوء بالفشل في كل مرة.
محمد عبد الباري (أبو شادي) رجل في عقدة الخامس، إن صحّ التقدير، خطيب مفوّه في المساجد، ومندوب إعلامي لدى إحدى شركات الحج والعمرة، يذكرنا مرة أخرى بوحشية الاحتلال وممارساته الهمجية على غزة، وخاصة سياستها الممنهجة في استهداف الذاكرة الفلسطينية وإبادتها، تحديدًا بعد السابع من أكتوبر، حيث تعرض منزله للقصف بصاروخين في تاريخ 12/12/2024م، مما أودى بحياة زوجته وعائلته، ولم يتبقَ إلا هو وابنه (أحياء يرزقون)، يحاولان الاستيقاظ من صدمة قوية ألمّت بهما، نجح الابن بالاحتفاظ بذاكرته، في حين فقد والده مع استمرار القصف والقتل، ذاكرته وقدرته على الكلام، فضلا عن الإصابة الجسدية في قدميه، ذاكرة أبي شادي ممسوحة عن آخرها، لا يعرف شيئًا عن حاضره ولا ماضيه، وأما ابنه فحرارة الفقد تحفر في ذاكرته، يروي ما حصل بدقة متناهية.
بدأت إسرائيل سياستها في محو الذاكرة الفلسطينية منذ أكثر من 120 عامًا (1878م)، وبأساليب مختلفة، بدءًا من أولى خطواتها في شراء 3375 دونمًا من أراضى قرية ملبس، وعبرنتها وتسجيلها باسم النمساوي سلومون، وظلّت هذه السياسة مستمرة في تطور وتخطيط ممنهج حتى يومنا هذا، المتمثل في الحرب الهمجية القائمة على غزة، حيث قامت باستهداف المدنيين الأطفال، تحديدًا، بالقتل والقصف والتجويع، فضلًا عن استهداف ذاكرة وحاضر وتاريخ وتراث غزة بالكامل، حيث دمر القصف الإسرائيلي مكتبة بلدية غزة العامة، ولم تسلم كتبها ومقتنياتها التاريخية من ويلات الحرب، أرشيف المدينة المركزي التابع لبلدية غزة والذي كان يحتوي على وثائق تاريخية مهمة جدًا، يتراوح عمرها ما بين 100 إلى 150 عامًا، ودُمِّر المسجد العمري، أقدم مسجد في غزة، حيث هو في الأصل كنيسة بيزنطيّة تعود إلى القرن الخامس، وكان علامة بارزة في غزة، كما تضرّرت «كنيسة القدّيس برفيريوس»؛ أقدم كنيسة في غزة، تعود إلى القرن الخامس، وتُعد ثالث أقدم كنيسة في العالم، وتضرر أو دُمّر أكثر من 100 موقع تراثي في غزة؛ من بينها مقبرة رومانية عمرها أكثر من 2000 عام، و«متحف رفح» الذي كان مخصّصًا لتراث المنطقة الديني والمعماري الطويل والمتنوع، ودُمّرت «الجامعة الإسلاميّة» أول مؤسّسة للتعليم العالي في قطاع غزة، تأسّست في عام 1978م، إلى جانب أكثر من 200 مدرسة. فضلًا عن اغتيال العقول المفكرة والكتاب والعلماء، مثل سفيان تايه؛ رئيس الجامعة، مع عائلته في غارة جويّة، وهو الذي كان يشغل مقعد «اليونسكو» للعلوم الفيزيائية والفلكية وعلوم الفضاء في فلسطين، والدكتور محمد شبير؛ عالم الأحياء الدقيقة، والشاعر والكاتب المرموق الدكتور رفعت العرعير، الذي انتشرت قصيدته «إذا كان يجب أن أموت» على نطاق واسع بعد مقتله، ولا ننسى اغتيال الصحفيين، وتجريف المقابر، والتهديدات والملاحقات الإلكترونية، واغتيال مهد الكلمة والهوية أينما انطلقت…
ما يهمنا في ظل هذه السياسة القذرة والممنهجة أن نلقي الضوء على الجيل الصغير الذي ادّعى بن غوريون أنه سينسى، الذاكرة المستهدفة حاليًّا، ذاكرة الطفل الغزيّ، الذي لم تتوقف آلة الإجرام الصهيونية عن استهدافها، فعلى الرغم من اغتيال ما يزيد عن12300  طفل في غزة بين أكتوبر 2023 وفبراير 2024، يخرج الطفل (رمضان أبو جزر) من بين الركام ليقسم أمام العالم بأن الله لن يضيعهم، والنصر سيكون حليفهم، ويخرج طفل آخر بصوته الصادح ليطلب من غزة الصمود “اصمدي يا غزة الغزة والقصف بيهون، رح ناخذ بثار الشهدا والبطل بمليون، إلك علينا هالعهد إحنا ما منخون، انت يا ارض السلام يا بلد الزيتون، اقصانا”، هذه الذاكرة الطفولية وغيرها الكثير خرجت وبرزت من القصف والدمار، لتسجل كل حدث ووجع وفقد وجرح لأبنائها من بعدها، وستعيد إعمار غزة من جديد، وستخلق مقاومين جدد يبقون متاريس في وجه العدو لحماية غزة والأقصى وفلسطين.
فوسط هذه الفجوة الآخذة بالتشكل في ذاكرة الغزيين، بالتدمير، وضياع الوثائق الثبوتية إلى جانب الخسارة في سجلّات الحفظ، والذي عبّرت عنه دينا مطر؛ أستاذة في «جامعة لندن»، لصحيفة «فاينانشال تايمز» بأنّ مثل هذه الخسارة يؤدّي إلى محو الذكريات والهويّات المشتركة للناجين. تُعدّ الذكرى أمرًا مهمًّا، هذه عناصر أساسيّة عندما تريد تجميع تاريخ الحيوات العاديّة وقصصها، ولأن الذكرى مهمّة، وليس من السهل أن ننسى، وسط مشاهد الموت والدمار منذ تشرين الأوّل (أكتوبر)، أنّ قطاع غزة هو مكان حقيقيّ كان موجودًا خلف السياج، وتحت قيود مشدّدة، ولم يكن مجرد سجن مفتوح، له مدن متوسطية بشوارع محاطة بالأشجار وورود المجنونة والجهنميّة، وشاطئ يوفر الراحة من الحرّ وانقطاع التيار الكهربائي، الكثير من ذلك الآن مدمر أو مجرف.

ومع ذلك علينا ألا نقلق، إنما نستشف الأجوبة عن التساؤلات الآنفة الذكر، والأفكار المؤرقة، حينما نراقب أطفال أهل غزة الناجين من القصف، ففي ظل وجودهم وذاكرتهم الحديدية، نطمئن؛ فهي زادنا وزوادنا لنعيد كتابة التاريخ من جديد، ونشهره في وجه العالم، بأنّا شعب لا يموت، ينهض كالعنقاء من وسط الرماد.
فلسطين