نشرت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية تقريرا بعنوان “هكذا أضرت حرب غزة باقتصاد إسرائيل”، جاء فيها أن “بنك إسرائيل” يقدر أن الحرب في غزة ستكلف 46 مليار جنيه إسترليني (ما يقارب 60 مليار دولار) بحلول نهاية السنة المقبلة. ويكلف نقص العمالة وحده 475 مليون جنيه إسترليني (570 مليون دولار) في الأسبوع. وتساءلت الصحيفة عن مدى سوء الوضع بالنسبة لمجتمع الأعمال في “إسرائيل”؟ وكيف يمكن للبلاد أن توقف دوامتها الاقتصادية؟
أشار التقرير إلى أن فقدان جنود الاحتياط والمهاجرين والفلسطينيين في القوى العاملة يعد السبب الرئيسي لانكماش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 20 بالمئة تقريبًا في الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2023 – وهو أكبر انكماش منذ الوباء، وذلك وفقًا للبيانات الصادرة الأسبوع الماضي عن مكتب الإحصاء المركزي.
وقد تم استدعاء حوالي 300 ألف جندي احتياطي للخدمة، بينما عاد العمال الأجانب إلى بلادهم في رحلات إجلاء ترعاها دولهم إلى تايلاند والصين والفلبين. كما فقدت “إسرائيل” حوالي 18.500 عامل من غزة و160 ألف عامل من الضفة الغربية بعد تقييد تصاريح عملهم.
وقد أثر هذا الوضع بشدة على قطاع الزراعة إذ تعد “إسرائيل” سابع أكبر مصدر للفواكه الاستوائية في العالم، وهي ثالث أكبر منتج يتم تصديره من إسرائيل إلى المملكة المتحدة، بعد الأدوية والماس. ولمعالجة النقص المزمن في العمالة، تقوم إسرائيل حاليًا بحملات توظيف في الهند وسريلانكا وملاوي.
وذكر التقرير أن ارتفاع تكلفة الفواكه والخضراوات، والحاجة إلى استيراد مكونات مثل الطماطم، أدى إلى تقليص أرباح ريلي ألون كوهين، 34 سنة، التي تدير شركة “ريليز دابا” لتقديم الطعام، التي قالت: “معظم مطبخي – الطعام المغربي واليمني – مصنوع من الخضار. لقد تضاعف سعرها حاليًا بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف”. وأضافت أن الطلب على فعاليات تقديم الطعام انخفض بشدة. وانخفض الإنفاق الاستهلاكي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2023 بنسبة 27 بالمئة، وذلك وفقًا لمكتب الإحصاء.
ووفق التقرير يظهر تأثير الحرب على المناطق الحضرية والريفية في البلاد في متجر للخضراوات في شارع روتشيلد في تل أبيب، حيث كان صاحب المتجر، بن مزراحي، يعتذر للعملاء عن ارتفاع الأسعار. ويُعد الشارع، الذي سمي على اسم الأسرة المصرفية، موطنًا لعدد كبير من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا أكثر من أي مكان آخر في “إسرائيل”. لكن في الأسبوع الماضي، كانت الأرصفة فارغة في الغالب وكانت مواقع البناء على طول الطريق نصف مهجورة بسبب نقص العمال.
ونقل التقرير عن البروفيسور تسفي إيكشتاين، رئيس معهد آرون للسياسة الاقتصادية في جامعة رايخمان في هرتسليا، على بعد ستة أميال شمال تل أبيب، قوله إن “قطاع التكنولوجيا الفائقة هو القاطرة للاقتصاد الإسرائيلي. فحوالي 40 بالمئة من معدل النمو الإسرائيلي من سنة 2017 إلى سنة 2023 كان مدفوعًا بشركات التكنولوجيا”.
ولفت التقرير إلى أن هذا القطاع حقق نجاحًا كبيرًا لدرجة أنه وسع نطاقه إلى ما هو أبعد من “إسرائيل”، وقد انجذبت العديد من الشركات إلى أسواق الأسهم الأوروبية بحثًا عن رأس المال اللازم للنمو. وتشمل هذه الشركات شركة الأمن السيبراني “تشك بونت”، التي تبلغ قيمتها السوقية أكثر من 16 مليار يورو وهي مدرجة في ألمانيا.
أشار إلى أهمية التكنولوجيا بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي تتضح من خلال الضرائب، فالإسرائيليون العاملون في هذا القطاع يدفعون ربع الضرائب المباشرة التي تفرضها الحكومة، وهم يمثلون 12 بالمئة من القوة العاملة – وهي أكبر نسبة في العالم – ولكنهم يشكلون أيضًا نسبة غير متناسبة تبلغ 15 بالمئة من جنود الاحتياط الذين يتم استدعاؤهم للخدمة، وهذا يعني أن القوى العاملة التي يبلغ قوامها 400 ألف فرد فقدت حوالي 60 ألف موظف.
وبحسب التقرير يعود الآن بعض جنود الاحتياط إلى العمل بعد تسريحهم من الخدمة. ومع ذلك، فإن 58 بالمئة من الرجال وتسعة بالمئة من النساء الغائبين عن القوى العاملة الشهر الماضي كانوا يخدمون في الجيش، وفقًا للإحصاءات الرسمية.
وينقل عن إيكشتاين قوله إن مصير الاقتصاد يعتمد على عودة هؤلاء العمال من ساحة المعركة إلى أجهزة الحاسوب المحمولة الخاصة بهم، كما تعتقد العديد من الشركات أنها قادرة على التكيف مع الوضع وقد فعلت ذلك.
ونقل التقرير عن جوناثان ميدفيد، الذي استثمرت منصته الاستثمارية “آور كرود” أكثر من 2.3 مليار دولار في أكثر من 400 شركة، أن الشركات اعتادت على وجود جنود احتياطيين يخدمون لمدة شهر أو شهرين في السنة. وقال: “يترك الناس العمل لمدة ثلاثة أسابيع في كل مرة، وعليك الاستمرار في العمل بدون هذا الشخص، ونحن نبني جميع أنواع التكرار في الفريق حتى يتمكن الأشخاص من تغطية بعضهم البعض”.
وزعم أن الحرب سيكون لها تأثير محفز على القطاع، “سوف تحفز العقول الإسرائيلية على تطوير المزيد من التكنولوجيا الرائدة التي سيتم استخدامها أولا لتأمين حياة الإسرائيليين، ثم لتحسين العالم كله، كما حدث في الماضي”.
وأفاد التقرير أنه مع ذلك فهناك دلائل تشير إلى أن الحرب تخلف تأثيرًا سلبيًّا على الاستثمار الداخلي. وتظهر الإحصاءات الرسمية أن مستويات الاستثمار الأجنبي تراجعت بنسبة 70 بالمئة في الربع الأخير من السنة الماضية.
ولفت إلى أنه بعد تراجعها في أعقاب أحداث السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر مباشرة، انتعشت قيمة الشيكل الإسرائيلي مقابل الدولار، وكذلك مؤشر تي أي-125 القياسي في بورصة تل أبيب، وتتجاوز الآن مستويات ما قبل الحرب. ويأتي هذا على الرغم من التخفيض غير المسبوق لتصنيف الديون السيادية لإسرائيل من قبل وكالة “موديز” هذا الشهر، مما يعكس المخاوف بشأن تصاعد الصراع.
وذكر أنه حتى الآن، اقتصر مجتمع الأعمال الدولي على الدعوة إلى السلام في المنطقة، مع تخوف الشركات من أن يُنظر إليها على أنها تنحاز إلى أحد الجانبين.
وأشار إلى انه في وقت سابق من هذا الشهر، أنهت شركة التجارة اليابانية “إيتوتشو” شراكتها مع شركة الدفاع الإسرائيلية “إلبيت سيستمز”، مستشهدة بتوجيهات من وزارة خارجيتها فيما يتعلق بضرورة الالتزام بحكم محكمة العدل الدولية بأن “إسرائيل” ربما ترتكب إبادة جماعية في غزة.
وذكر انه في كانون الأول/ ديسمبر، وافقت الحكومة الإسرائيلية على منحة بقيمة 2.5 مليار جنيه إسترليني لشركة “إنتل” الأمريكية لإنشاء مصنع جديد لتصنيع الرقائق بقيمة 20 مليار جنيه إسترليني بالقرب من حدود غزة. وتمثل شركة “إنتل”، وهي أكبر جهة توظيف خاصة في البلاد، 5.5 بالمئة من صادرات “إسرائيل” من التكنولوجيا الفائقة.
وأكد التقرير على أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يتدمر فقط برحيل جنود الاحتياط والعمال الأجانب فقط؛ فقد نزح نحو 250 ألف نسمة داخليًّا بسبب القتال، مما أدى إلى حالة من الفوضى في حياتهم الشخصية والتجارية.
وذكر أن أحد هؤلاء هو داني أريفسكي، 31 سنة، من كيبوتس دان عند سفح جبل الشيخ، على مرمى حجر من الحدود اللبنانية السورية. وقد اضطر إلى الإخلاء، وترك منزله وورشة النجارة، والانتقال مسافة 40 ميلاً إلى مدينة طبريا.
وأوضح قائلًا: “لقد انقلبت حياتي رأسا على عقب منذ الحرب. لقد عاد الكثير من الأشخاص في عمري الذين تم إجلاؤهم للعيش مع والديهم وليس لديهم أي فكرة عما يجب عليهم فعله بعد ذلك”.
وفي مواجهة الاضطرار إلى دفع إيجار منزله في كيبوتس دان ومكان إقامته الجديد في طبريا، لم يعد بإمكانه الاستمرار في دفع إيجار ورشة العمل الخاصة به، لذلك اضطر إلى إغلاقها.
وشدد التقرير على أن تكلفة التعامل مع النازحين تشكل عبئًا آخر على المالية العامة الإسرائيلية المتوترة، فقد شهدت البلاد عجزًا في الميزانية بنسبة 4.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2023، بعد فائض بنسبة 0.6 بالمئة في السنة الماضية. وارتفعت أسعار التأمين على ديون الحكومة الإسرائيلية، من خلال أدوات مالية تسمى مقايضات العجز الائتماني، إلى عنان السماء، مما يعكس المخاوف بشأن قدرة البلاد على سداد مستحقاتها.
وأشار إلى أنه استجابة لذلك؛ تخطط الحكومة لزيادة ضريبة القيمة المضافة بمقدار نقطة مئوية واحدة في بداية سنة 2025 وخفض الإنفاق غير الدفاعي. وسيتم تخصيص بعض هذه الأموال لإسكان 120 ألف شخص تم إجلاؤهم، ويعيش الكثير منهم في الفنادق منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر. وستتلقى معظم المجتمعات النازحة من مسافة 2.5 ميل من غزة المساعدة حتى فصل الصيف على الأقل، وبعد ذلك يتم الوعد بمنح تأقلم بقيمة 10 آلاف جنيه إسترليني لكل أسرة.
وذكر أنه يتم إيواء بعض النازحين في فنادق تم إفراغها من السياح. وقد أصبح فندق “هيرودز” في تل أبيب حاليا موطنًا للعائلات والكلاب التي تم إجلاؤها من كيبوتس نير آم، على بعد ما يزيد قليلاً عن ميل واحد من غزة.
وقام الموظفون بتحويل طابق كامل إلى حضانة لدعم العدد المتزايد من الأطفال الرضع، حيث وُلد 30 طفلاً في الفندق منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر. وتقوم الحكومة بتمويل تكلفة إيواء الأشخاص الذين تم إجلاؤهم، لكن هذا المبلغ أقل مما يجنيه الفندق من دفع الضيوف.
ومن المرجح أن يمتنع السياح عن زيارة “إسرائيل” في المستقبل المنظور. في الواقع، سجلت الإحصاءات الرسمية 58.600 زيارة في كانون الثاني/ يناير، أي بانخفاض قدره 77 بالمئة مقارنة بالسنة السابقة.
من جانبها، اضطرت مجموعة فنادق “إنتركونتيننتال”، وهي شركة مدرجة على مؤشر “فاينانشيال تايمز” ومقرها المملكة المتحدة، إلى إغلاق اثنين من المواقع الخمسة التي تديرها في “إسرائيل”، وذلك وفقا لرئيسها التنفيذي إيلي معلوف.
وقال معلوف: “تتمحور أولويتنا الرئيسية حول سلامة وأمن زملائنا وضيوفنا. لقد اضطررت إلى إغلاق فندقين. إن السفر والسياحة ليسا عملاً مزدهرًا في الوقت الحالي في منطقة الصراع هذه، لسوء الحظ”.
ولكن عنات أهارون، نائبة رئيس التسويق والمبيعات في فنادق “فتال”، أكبر سلسلة فنادق في إسرائيل ومالكة “هيرودز”، تعتقد أن السياحة سوف تنتعش. وقالت إنه “بعد كل أزمة أمنية يعود السياح إلى إسرائيل. إننا دائمًا نعود أقوى وبازدهار أكبر”.
وذكر التقرير بأن الخطوط الجوية البريطانية و”فيرجن أتلانتيك”، أوقفتا رحلاتهما إلى “إسرائيل” في أعقاب هجمات السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر. ومن المقرر أن تستأنف الخطوط الجوية البريطانية خدماتها إلى تل أبيب في الأول من شهر نيسان/ أبريل، على الرغم من أنها ستعمل عبر طائرة قصيرة المدى مع توقف في قبرص. وتتطلع شركة “فيرجن أتلانتيك” إلى العودة إلى “إسرائيل” في شهر أيلول/ سبتمبر.
وختم التقرير بما قاله البروفيسور إيكستين من أن “هذه الصدمة الاقتصادية أسوأ من الوباء. ولا يوجد تطعيم في النهاية. والنهاية غير واضحة على الإطلاق. بكل معنى الكلمة – سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا – هناك حالة من عدم اليقين”