كما كان متوقّعاً، حَمَلَ نتنياهو، في “خطاب النصر المطلق”، على “حماس” بشدّة مجدداً، ورفض مقترحها لصفقة كبرى تشمل انسحاباً إسرائيلياً من القطاع، وأبدى فيه تعنّتاً وتمسّكاً بشعار “الانتصار المطلق”.
في مؤتمر صحفي ظهر فيه بمفرده، قال نتنياهو إن خضوعه للطلبات الهاذية التي قدمّتها “حماس” ليس فقط لا يؤدي لتحرير المخطوفين المتبقّين في غزة، بل سيفضي لمذبحة جديدة على غرار السابع من أكتوبر. ورغم أقواله الصارمة ضد رد حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، والقدح بها، وشيطنتها، لم يغلق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الباب أمام استمرار المفاوضات معها، مثلما لم يعلن وقف المداولات، أو التنازل عنها، ولم يبلغ الوسطاء برفضها.
لم يكن من المتوقع أيضاً أن يعلن نتنياهو رفضه السريع لمقترح “حماس”، كي لا يبدو وحكومته رافضين لكل ما يقترح عليهم لوقف النزيف، خاصة أن مجلس الحرب ولا الحكومة لم يبحثوا به بعد، فهذا يفترض أن يتم اليوم الخميس، وخاصة أن الوسطاء، بمن فيها الولايات المتحدة، ترى بإيجابية بعض نقاط رد “حماس” ووزير خارجيتها ما زال هنا في البلاد.
تعتقد بعض الأوساط غير الرسمية في إسرائيل أن خطاب نتنياهو محاولة لخفض أثمان الصفقة المقترحة، ودفع “حماس” لتقديم تنازلات والنزول لـ “أرض الواقع”، محاولة للمساومة، كما يجري عادة بين أطراف تدير مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة.
غير أن مضامين “خطاب النصر” تدلّل على ما هو أعمق وأخطر، ويندرج ضمن مساعيه لرفض التسويات المقترحة، ومحاولة تجنيد أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين لجانبه بخطاب الترهيب والشعبوية.
منذ السابع من أكتوبر، ما زال نتنياهو يتعهد بمواصلة الحرب، وربما توسيعها في الجبهات الأخرى، ليس فقط طمعاً بإطالة عمر حكومته. ما يحرك نتنياهو ووزراءه، الذين صوّرهم كاريكاتير صحيفة “هآرتس”، اليوم، كثلّة مجانين، يتعدّى الاعتبارات السياسية الحزبية والشخصية، حسابات البقاء في الحكم.
لا يختلف نتنياهو كثيراً عن بقية الوزراء الغيبيّين المتطرفين، فهو الآخر معنيٌّ بالمزيد من تلبية شهوة الانتقام من الفلسطينيين وكيّ وعيهم من خلال “نكبة ثانية” داخل القطاع، ويبدو أنه يقصد ذلك أيضاً بشعاره “انتصار مطلق”. وهذا ما قاله بعض وزرائه صراحة، منهم وزير الزراعة آفي ديختر، عضو مجلس الكابنيت، قبل شهرين.
ويبدو أن قول وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، بأن شيطنة الإسرائيليين والمخطوفين من قبل “حماس” منذ السابع من أكتوبر لا تبرر شيطنة الآخرين، هو تعقيب على ما يسمعه ويراه ويستنتجه من لقاءاته مع القادة الإسرائيليين، خلال زيارته السادسة للمنطقة.
بعثة إسرائيلية لمصر اليوم
نتنياهو أيضاً يرى عودة القضية الفلسطينية بقوة على أجندة العالم، ويسمع يومياً الولايات المتحدة وبقية العالم يتحدثون عن تسوية الدولتين ضمن “صفقة كبرى” تشملها نظرية بايدن، ولذا يخشى أن يخدم وقف الحرب الآن هذه الفكرة التي يبحث عن قتلها وشطبها بإطالة أمد الحرب.
تزامناً مع اجتماع الكابنيت، اليوم، للتداول بردّ إسرائيل على مقترح “حماس”، ستصل للقاهرة بعثة إسرائيلية للتباحث بها، وفق ما قالته تسريبات محلية. ويبدو أن البعثة هذه ستتباحث بقضية أهم بالنسبة لنتنياهو وحكومته، وتتعلق برفح ومحور فيلادلفيا.
في مؤتمره الصحفي، أمس، كرّرَ نتنياهو ما قاله وزير الأمن غالانت، بأنه أَمَرَ قوات الاحتلال بالاستعداد للتقدّم للسيطرة على منطقة رفح، رغم أنها مزدحمة بأكثر من مليون لاجئ، ورغم إبداء دول كثيرة، منها الولايات المتحدة، “قلقها العميق” من مثل هذه الخطوة.
للوهلة الأولى تبدو التهديدات الصادرة عن نتنياهو وغالانت محاولة لترهيب “حماس” ودفعها لتليين مواقفها، لكن من غير المستبعد أنها إعلان نوايا حقيقية، وهذا ما تحمله البعثة الإسرائيلية اليوم للقاهرة.
إذا ما صمّمت مصر فعلاً على منع إسرائيل من التوغل نحو رفح والمنطقة الحدودية، كما جاء في تسريبات وتصريحات مصرية، فهذا يعني حجر عثرة أمام مخططات الاحتلال لمحاصرة وخنق المقاومة الفلسطينية بالمزيد من النار والقصف والتدمير الواسع، لأن منطقة رفح ستصبح عندئذ نوعاً من الملجأ لها وبقدراتها العسكرية وللمحتجزين الإسرائيليين معها، وهذا من شأنه تشويش مخططات نتنياهو، بدلاً من الرهان فقط على مواصلة البقاء والمقاومة في منطقة خان يونس.
هندسة الوعي
استهلَّ نتنياهو مؤتمره الصحفي وأنهاه بالزعم أن استمرار الضغط العسكري هو السبيل لتحرير الأسرى، وأن الخضوع لمطالب “حماس” لن يفضي لتحريرهم، وأن إسرائيل في طريقها لانتصار حاسم.
طيلة ساعة حاول نتنياهو، عبر خطاب شعبوي ديماغوجي، هندسة وعي الإسرائيليين أيضاً من خلال رسائل بسيطة وتبسيطية على شكل أسود أبيض، كما يتجلى من قوله “الكل في مدرجات الملعب ينظرون لنا وينتظرون مشاهدة من هو الطرف المنتصر”، و”نحن في حارة عنيفة”، أو القول الفارغ إن “الضغط العسكري” هو الطريق لاستعادة المحتجزين، مع العلم أن هذا لم يُعِد سوى جندية واحدة.
وتضَمّنَ خطابه الكثير من محاولات ترهيب الإسرائيليين، ودفعهم للاصطفاف خلف قيادته، بتلويحه مجدداً بفزاعة “حماس”، بعدما كان في الماضي يلوّح لهم بفزاعة إيران. مرة تلو المرة قال نتنياهو للإسرائيليين إن وقف الحرب والاستجابة لطلبات “حماس” يعني مذبحة أو كارثة جديدة، مخاطباً غرائزهم ومشاعرهم، خاصة الشعور الدفين بالخوف وهو شعور إنساني قوي. في هذا الخطاب “الحربجي” حرص نتنياهو على تكرار رسائله التبسيطية والغرائزية، كما تقتضي هندسة الوعي، وفق نظريات علم النفس والسلوك.
رد جاد
إزاء تعاظم التعاطف في الشارع الإسرائيلي مع عائلات المحتجزين، أطلق بعض العائدين من غزة في صفقة سابقة صرخة توسل كبيرة تصدّرت عناوين الصحف العبرية، اليوم. ومع المطلب بضرورة استعادتهم، حتى بثمن وقف الحرب دون تحقيق أهدافها المعلنة، يحاول نتنياهو إبطال مفعول ذلك، ومنع الانزياح الشعبي نحو هذا الاتجاه، ومن خلال تسخيف أفكار جنرالات في الاحتياط ومعلّقين عسكريين يشكّكون بجدوى حرب طالت وبلا أفق. يصعد نتنياهو من مساعيه هذه، خاصة في ظل اتهامات متصاعدة له بأنه عملياً يقوم بالتضحية بالمحتجزين، وهم ليسوا ضمن حساباته، كما يقول، اليوم، بعض المراقبين الإسرائيليين، منهم المعلق السياسي في صحيفة “هآرتس” أوري مسغاف، الذي يتحدث، اليوم الخميس، عن برنامج نتنياهو بالتضحية بالمخطوفين. ويشير مسغاف لفشل إسرائيل في استعادة أي منهم، عدا جندية بالقوة العسكرية، منوّهاً إلى أن وقف القتال من أجل استعادتهم سيدفع وزراء نتنياهو ضده، رغم أن “حماس” قدمت “رداً جدياً”. متطابقاً بذلك مع بعض المصادر الإسرائيلية مجهولة الهوية التي اعتبرت رد “حماس” جدياً، كما قالت “هآرتس” و”يديعوت أحرونوت” اليوم. وسبقه في ذلك وزير الأمن السابق موشيه ياعلون، الذي يتهم نتنياهو، في تصريحاته الأخيرة، بأنه يعدّ الشارع الإسرائيلي لقراره بالتنازل عن المخطوفين، كما قال للإذاعة العبرية العامة، أول أمس.
من جهته يرى المعلق الإسرائيلي المعارض للحرب جدعون ليفي أن الثمن ليس موجعاً، وأن وقف الحرب وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين جيد لـ “حماس”، ولكن من الممكن أن يكون جيداً لإسرائيل أيضاً.
في مقال تنشره “هآرتس”، اليوم، يقول ليفي إن إطلاق سراح أسرى فلسطينيين قادة يمكن أن يكونوا شركاء لتسوية تاريخية مع الشعب الفلسطيني، إذا كانت إسرائيل معنية بشكل جاد بوجود شريك.
ويخلص للقول إنه ينبغي ترك الشعارات المكرورة على مسامع الإسرائيليين ودراسة السؤال: هل الصفقة فعلاً سيئة؟ بماذا؟ هل هناك أفضل منها؟
لهجة أشد دون خطوات عملية
ورغم تأييد رئيس المعارضة يائير لبيد لفكرة وقف الحرب من أجل استعادة المحتجزين وتزايد التعاطف معهم في الصحافة والأوساط الإسرائيلية، وحتى لدى بعض أعضاء مجلس الحرب، أمثال غادي آيزنكوت، الذي يتهم نتنياهو بالتسويف ومحاولة كسب الوقت، وعدم عقد اجتماعات كافية للقيادة، وعدم اتخاذ قرارات حيوية جداً (مثل تحديد ملامح اليوم التالي، الذي يلحّ الجيش في المطالبة به منذ أكثر من شهر) لا تزال إسرائيل تشهد انقساماً كبيراً بين من يؤيد خطّ نتنياهو وحكومته، ومن يعارض توجهاتها. بالإضافة لدور مصر الحيوي، الذي يزداد حساسية في هذه المرحلة (التمسّك برفض التوغل الإسرائيلي لرفح والحدود مع سيناء) يبدو أن الولايات المتحدة لم تقرر ممارسة ضغط أكثر فاعلية على حكومة الاحتلال من أجل وقف الحرب. هناك تصعيد بدرجة اللهجة، ولكن دون خطوات عملية، وهذا ما انعكس برسم كاريكاتير في “يديعوت أحرونوت” يبدو فيه بايدن يبيع مثلجات، ويقول بملامح غاضبة للشاري، نتنياهو، وهو يتذوق بملاعق صغيرة أنواعاً من البوظة على أقل من مهله: قرر ما تريد!
“هناك مركبات في رد حماس ليست مبتدأ لمفاوضات، لكنها توفر حيّزاً لتفاهمات”، قال بلينكن في مؤتمر صحفي في تل أبيب، واكتفى بنقد مبطن، بقوله إن إسرائيل تعرّضت لشيطنة في 7 أكتوبر، وهذا ليس تصريحاً لتفعل ذلك للآخرين.. معظم الغزيين أبرياء، وسأبقى أتذكر للأبد صورة أولاد قتلوا في غزة”.
رغم هذا “الشعور الإنساني” اكتفى بلينكن بالقول إن الولايات المتحدة تبدي قلقاً عميقاً من نيّة إسرائيل التوغل في رفح المكتظة، دون اتخاذ موقف صارم رادع من خطوة من شأنها أن تغرق جنوب القطاع ببحر من الدم.