أسئلة الحرب (8)..حسن خضر

الثلاثاء 23 يناير 2024 10:01 ص / بتوقيت القدس +2GMT
أسئلة الحرب (8)..حسن خضر




ذكرنا في مقالة سبقت أن قضية الإبادة الجماعية المرفوعة في محكمة العدل الدولية، على إسرائيل، قلبت طاولات كثيرة على رؤوس أصحابها. وواجبنا، الآن، الانتقال من الصورة البانورامية العامة إلى صور مقطعية لتفسير معنى ودلالة ما حدث. لذا، نخصص معالجة اليوم للحالة الإسرائيلية في محاولة للقبض على معنى ودلالة ما انقلب من طاولات، وتضرر من رؤوس.
والمفارقة: أن في الحالة الإسرائيلية، بقدر ما تتجلى الآن وهنا، ما يصلح للتدليل على فرضية أن أعلى درجات القوّة ليست شيئاً إيجابياً، بالضرورة، وفي كل الأحوال، والعكس صحيح فأدنى الدرجات على سلّم الضعف قد لا تكون سلبية تماماً، بالضرورة، وفي كل الأحوال. تحتمل فرضيتنا هذه صياغات كثيرة. ومع ذلك، الخلاصة واحدة، أو لدينا خلاصات متقاربة، وقابلة للحصر.
والخلاصة: لا تُقاس حروب نزع الاستعمار، والكفاح ضد الكولونيالية، بما لدى المُستعمِر والمُستعمَر من قوّة النيران، بل بما تراكم أو تناقص من الرصيد الأخلاقي لدى هذا وذاك. وبهذا المعنى، تبدو الدولة الإسرائيلية وقد أفلست بالمعنى الأخلاقي، على الرغم ممّا في ترسانتها العسكرية، والاقتصادية، من علامات وأدوات القوّة، إلى حد يسوّغ لها التصرف بمنطق القوّة الإقليمية، التي تأمر فتُطاع، وتخشى دول وجيوش من التحرّش بها خوفاً من العقاب.
ولنلاحظ، هنا أيضاً، أن تعاظم علامات وأدوات القوّة غير مشروط بالإفلاس، وإذا حدث واقترن الأمران، فهذا وثيق الصلة بالتوقيت، وغالباً في شيخوخة الإمبراطورية، كما حدث مع القوتين الفرنسية والبريطانية بعد الحرب العالمية الثانية (سقطت كلتاهما في حرب السويس) وكما يحدث مع القوّة الأميركية منذ عقود قليلة (بعد مشروعَين خاسرَين في أفغانستان والعراق).
ومع ذلك، في اقتران الإفلاس بلحظة الصعود نفسها، كما هو شأن القوّة الإسرائيلية، ما يحرض على تشخيص الحالة بوصفها استثنائية، وتنفتح على احتمالين كلاهما أسوأ من الآخر: إما على صعود متعرّج ومتدرّج وشاق، أو على احتضار طويل. الحالتان كارثيتان بقدر ما يتعلّق الأمر بسلام وسلامة الفلسطينيين، وفي الحالتين ما يفسّر الكثير من معاني الحرب على غزة، وسلوك الإسرائيليين في الميدان، وقضية الإبادة في محكمة العدل الدولية. وبهذا المعنى: لا تكون مشكلة الإسرائيليين مع الفلسطينيين وحسب، بل ومع العالم، أيضاً.
على أي حال، وبالنظر إلى ما يكتنف مفاهيم من نوع "الرصيد الأخلاقي"، و"العالم" من التباس في أدبيات السياسة العربية، والفكر السياسي العربي (الذي شوّهته القوميات الرومانسية العروبية بصراع الحضارات، ودمّرته فتاوى واستيهامات الإسلام السياسي بالمؤامرات الصليبية وحروب الأديان) سنجد، دائماً، صعوبة في تأكيد حقيقة أن الييشوف اليهودي في فلسطين لم ينشئ دولته رغم إرادة العالم بل بفضله، وأن الفضل لم يكن ليتأتى دون الرصيد الذي وفرته نتائج الحرب العالمية الثانية، وكارثة الهولوكوست.
أضفى ما تقدّم على دولة الإسرائيليين، إضافة إلى تداعيات سياسية واجتماعية وثقافية للمسألة اليهودية في أوروبا، قدراً من الرومانسية يتجاوز العلاقات والمواقف التقليدية بين الشعوب والدول. وإذا أردنا إمساك الثور من قرنَيه، فلنقل:
كانت الرومانسية المذكورة، وما زالت، وكذلك مشاعر الذنب (سنكرّس لها معالجة مستقلة) قناعاً شديد الفعالية لعلاقات ومصالح بين مركز الإمبراطورية وحليفه الإسرائيلي قرب موارد الطاقة، والمياه الدافئة، وطرق التجارة الدولية، في زمن الحرب الباردة، في الشرق الأوسط. العلاقة والمصالح لم تبتكر القناع، ولا القناع ابتكر العلاقة والمصالح، بل تصادف أنه كان هناك، فحجب حقيقتها، وأخفى دلالتها السياسية، وتكلفتها الأخلاقية، بكفاءة عالية.
وبما أن السرديات الكبرى تُختزل عادة في أساطير، وُلدت أسطورة داود الإسرائيلي الصغير، الذي يحارب ببراعة وشجاعة نادرتين غولياث (يلفظ الاسم بطرق مختلفة) الفلسطيني والعربي، العملاق القوي والغبي، في آن.
وقد تصدّعت مكانة المجاز التوراتي في الحرب على لبنان، واجتياح بيروت (1982) وفي حرب الانتفاضة الأولى (1987)، وتكاد تكون خرجت من التداول في العقود القليلة الماضية، بعدما أصبحت أضيق من الحجم الذي يفترضه الإسرائيليون لأنفسهم، خاصة بعد انهيار الحواضر العربية، والتحالف مع الإبراهيميين فوق الطاولة وتحتها، وبعدما كفّ الفلسطينيون أنفسهم عن التنافس على دور داود (كما كان الشأن في زمن منظمة التحرير) وبعد صعود الإسلاميين، الذين يصعب عليهم تبني مجاز داود الصغير، والتفريط بالدلالة الرمزية الهائلة لأمتهم الإسلامية.
بيد أن هذا كله، على أهميته، لا يختزل ما يمكن وصفه بمشكلة الإسرائيليين مع العالم. وعلى سبيل المقارنة، والقياس: إذا كان خيار بن غوريون، والعماليين في السنوات الأولى للدولة، هو الالتحاق بما عرف بالعالم الحر في زمن الحرب الباردة، والمجازفة بتدهور العلاقة مع حلفاء طبيعيين في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية.
فلنقل إن رهان نتنياهو، ودولة اليمين القومي - الديني الإسرائيلية (التي صارت مصدر إلهام لليمين الأميركي والغربي) على القوميات والشعبويات الناشئة والعنصرية في الغرب، ينطوي على مجازفة هائلة، لا يبدو من السابق لأوانه التنبؤ بنتائجها، فإما تنجح إسرائيل في تغيير العالم، أو ينجح العالم في تغييرها.
هذا هو مصدر الانقسام في أوساط اليهود الأميركيين، وتوتر علاقة جناح الأغلبية بينهم بحكومة اليمين القومي - الديني في إسرائيل. وهذا مصدر حرب الروايات في الجامعات الأميركية والأوروبية، ومصدر التظاهرات الشعبية، غير المسبوقة، في الغرب للاحتجاج على الحرب، والتضامن مع الفلسطينيين.
لليمين والشعبويات أعداء، وهم كثر وأقوياء في الغرب، وفي لحظة ما قد (ويمكن أن) تتمفصل المسألة الفلسطينية مع قضايا وضرورات حماية الديمقراطية هناك، ليس لأننا صرنا بارعين، ولكن لأن جرحنا صار أوضح، ولأن الإسرائيليين لم يتركوا للودّ قضية، مع كثيرين في الغرب، إلا وأفسدوها. فاصل ونواصل.