هل يمكن فرض الحل السياسي؟ مهند عبد الحميد

الثلاثاء 23 يناير 2024 10:00 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هل يمكن فرض الحل السياسي؟ مهند عبد الحميد



يتواصل تجاهل أسباب انفجار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأقله التغاضي عن مسؤولية دولة الاحتلال والنظام الدولي المهيمن في التنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة. ويتم تحوير المسألة إلى «إرهاب» يهدد وجود إسرائيل، والى حق الأخيرة «المشروع» في الدفاع عن نفسها. ولا يهم إذا ما اتخذ شكل الدفاع «المشروع» حرب إبادة تستهدف 2.3 مليون فلسطيني وقد اصبح معظمهم في حالة تشرد. ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، أصبح قطاع غزة مكانا للموت وغير قابل للسكن بعد أن أدخلت إسرائيل إلى قاموس الجينوسايد «قتل المنازل». تجاهل الأسباب والسياق أدى إلى تجاهل حقيقة الكارثة التي تصنعها إسرائيل في غزة، والأنكى أدى إلى اعتبار الحسم العسكري هو الحل والشرط الذي يمهد لأفق سياسي.
كل أو معظم المشاريع السياسية المسماة «معتدلة» تشترط ضمان ألا تشكل غزة تهديدا لأمن إسرائيل في المستقبل، والشيء نفسه ينطبق على الضفة الغربية. بعلم المنطق يجوز القول، إن هذا الشرط ممكن. إذا ما جرى التوقف عند الأسباب التي حولت قطاع غزة وبمستوى أقل الضفة الغربية إلى تهديد للأمن الإسرائيلي. لن يجد أي وسيط محايد ونزيه غير استمرار الاحتلال وسياسة الاستيطان والنهب والحصار والقمع والقرصنة المالية والاعتداء على الرموز الدينية، والرموز الوطنية - الأسرى وجثامين الشهداء - والسيطرة المزمنة والمهينة على أجزاء أساسية من الشعب الفلسطيني. معالجة هذه الأسباب تقود تلقائيا إلى طرح قضية الاحتلال على بساط البحث، والشروع بتطبيق قرارات الشرعية الدولية واحترام القانون الدولي في كل ما يتعلق بمعاملة شعب تحت الاحتلال. وللشعب الفلسطيني تجربة مهمة في عدم تهديد أمن إسرائيل هي تجربة انتفاضة 87-94 السلمية وتجربة اتفاق أوسلو من 94- 2000 التي انقلبت عليها «النتنياهوية» الحاكمة. صحيح أن حركتي حماس والجهاد الإسلامي عملتا على إسقاط اتفاق أوسلو من خلال عمليات في العمق الإسرائيلي مست بالأمن الإسرائيلي. إلا أن معسكر اليمين بزعامة نتنياهو كان له الباع الأطول الذي تدشنت معارضته للاتفاق بمجزرة الحرم الإبراهيمي وبقتل رابين وإسقاط حزب العمل الذي ابرم اتفاق أوسلو في الانتخابات، وبالشروع في إقامة بنية تحتية للمستوطنات عبر شبكة من الطرق الالتفافية، ومن خلال إطلاق العنان للتوسع الاستيطاني.
الأمن الإسرائيلي لا ينفصل عن الأمن الفلسطيني، فطالما جرت استباحة أمن المواطن الفلسطيني، طالما جرى إذلاله وإهانته والتنكر لحقوقه وعدم احترام رموزه الوطنية والثقافية والدينية، وسرقة موارده، طالما انعكس ذلك سلبا على الأمن والاستقرار الإسرائيلي. الرد الجماعي أو الفردي على الاستباحة الإسرائيلية لكل شيء فلسطيني لا يرتبط بميزان القوى ولا بالسيطرة المحكمة على مقدرات الشعب، حيث تقول كل التجارب منذ عصر العبودية وعهود الاستعمار القديم والجديد، انه لا يمكن السيطرة على شعب وإذلاله إلى ما لا نهاية، كما تقول، إن عصر الامبراطوريات دائما إلى زوال.
لقد رد الشعب الفلسطيني على الاستباحة الإسرائيلية بموقف حضاري مميز عنوانه الانتفاضة التي بدأت عفوية ثم تحولت إلى انتفاضة منظمة، ورد الشبان على امتهان كرامتهم بظواهر الطعن والدهس وإطلاق النار العفوية الفردية. فضلا عن الرد بالعمل المنظم – تنظيمات المقاومة سابقا ولاحقا.
الحل الحقيقي الذي يزيل التهديد الأمني وتهديد الاستقرار، يبدأ بوقف نزف الدماء والموت والتدمير والتشريد ووقف هدر الأموال الضخمة وتلويث البيئة، انه الحل الذي يحمي الأطفال والأبرياء ويعيد كل الأسرى والمحتجزين من الطرفين إلى بيوتهم وعائلاتهم. إنه الحل الذي يبدأ بطرح قضية الاحتلال وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على الطاولة.
ثمة فرق جوهري بين المسعى الجدي لنزع فتيل الانفجارات ووقف الحرب. وبين إعادة تكرار  المواقف والأفكار التي قادت إلى الانفجار هنا وفي الإقليم. يقول إيهود باراك رئيس الحكومة الأسبق. ضمان أمن إسرائيل يكون بالقضاء على قدرات «حماس» العسكرية وإسقاط سلطتها
السياسة. بعد ذلك يتم تشكيل أو تحديد هيئة مدنية مسؤولة تتولى الحكم في قطاع غزة. ويدعو إلى تشكيل قوة عربية من محور الاعتدال لإدارة القطاع مؤقتا كما يدعو السعودية والإمارات لإعادة الإعمار، ويتحدث عن عودة السلطة الفلسطينية «المجددة» التي تراعي الترتيبات الأمنية الإسرائيلية. على أن تشارك إسرائيل في المحادثات المستقبلية حول حل الدولتين. أفكار وخطط باراك وغانتس وغالانت وعاموس يادلين وغيورا ايلاند. كلها تنطلق من الحسم الأمني العسكري مهما استغرق من وقت ومهما كانت التعقيدات. يقول تقرير استخباري أميركي نشرته «وول ستريت جورنال» قبل أيام، «تظهر (حماس) قدرة على الصمود بعد أشهر من الحرب التي دمرت مساحات واسعة من قطاع غزة لأنها تخوض حربا دفاعية في بيئة سكانية كثيفة ولديها مئات الأميال من الأنفاق». هذا يحتمل المزيد من التدمير وسفك الدماء وتشريد وترويع الأبرياء مع استمرار الحرب طوال العام 2024 وربما 2025 الذي بشر به نتنياهو، بما ينسجم مع الموقف الإسرائيلي التاريخي الرافض للحل السياسي والحقوق الطبيعية المشروعة للشعب الفلسطيني. هؤلاء يمارسون عمى متعمدا حول ما يحدث في قطاع غزة من جرائم حرب يندى لها جبين الإنسانية. القادة والجنرالات جزء من «سيكولوجية عدم الرغبة في معرفة طبيعة حرب الإبادة في غزة، في مقابل التركيز على منتقدي إسرائيل، كما يقول يائير بن ديفيد في «هآرتس». فقط التثبيت على ما حدث يوم 7 أكتوبر وعدم سماع كل ما حدث بعدها.
إذا كان القادة والجنرالات لا يكترثون بحياة شعب يعاني الأمرين، فمن الطبيعي أن تكون المهمة رقم 1 بالنسبة للكل الفلسطيني هي وقف النزف والتدمير المترافق مع طرح قضية إنهاء الاحتلال على سلم الأولويات. قد تكون الوثيقة التي قدمتها حركة حماس بداية لبلورة موقف فلسطيني موحد يقطع الطريق على مواصلة حرب الإبادة والتدمير، سيتعزز الموقف الفلسطيني إذا ما صدر موقف يدعو إلى وقف الحرب من محكمة العدل الدولية.  
البعض بدأ يكتشف الطريق إلى الحل في مواجهة التعنت الإسرائيلي. جاء ذلك على لسان جوزيف بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، حين قال، نعتقد أن حل الدولتين يجب أن يفرض من الخارج بغية إحلال السلام، وحمل مسؤولية ما قامت به «حماس» إلى الرفض الإسرائيلي لهذا الحل، وأضاف، في حال لم نتدخل بحزم فإن دوامة الكراهية والعنف ستتواصل من جيل إلى آخر ومن جنازة إلى أخرى. ورغم ما يقال فلا تزال كفة الحل الأمني العسكري راجحة على كفة الحل السياسي، يستطيع الموقف الفلسطيني إحداث فرق.