“لم نعد مؤدَّبين”. هذا هو الشعار الجديد لعائلات المحتجزين الإسرائيليين، منذ أمس السبت، وفيه شرعوا في تصعيد الاحتجاج على بقاء أقاربهم في غزة، وعدم اكتراث حكومتهم عملياً بمصيرهم، واستنساخ رئيسها بنيامين نتنياهو موقفه المعلن، بأن الحرب لن تتوقف حتى تحقيق أهدافها، تزامناً مع ارتفاع الأصوات المشكّكة بذلك.
للمرة الأولى أقام العشرات من الإسرائيليين خيم احتجاج واعتصام مقابل البيت الخاص لنتنياهو في مدينة قيسارية، فيما تظاهر آلافٌ آخرون في تل أبيب ومدن أخرى أيّدوا عائلات المحتجزين في مطلبها، بل طالبوا بإسقاط الحكومة.
وفي هذا السياق، انطلقت، أمس، مظاهرة جماهيرية لفلسطينيي الداخل في حيفا، هي الأولى منذ بدء الحرب، لأن السلطات الإسرائيلية حظرت التظاهر حتى استجابت المحكمة العليا لالتماس قدّمته “الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة”، الخميس الماضي.
ويتصاعد الحراك في الشارع الإسرائيلي من أجل استعادة المحتجزين كهدف أوّلي، حتى بثمن وقف الحرب دون تحقيق انتصار، أو حتى صورة انتصار. وهناك عوامل تغذّي هذا الحراك المتصاعد، المرشح للمزيد من التصاعد، منها فشل الحرب في تحقيق أهدافها العالية المعلنة، رغم أنها طالت (106 أيام)، ورغم تدميرها القطاع بشكل وحشي.
بخلاف الرواية الإسرائيلية الرسمية، باتت أوساطٌ إسرائيلية واسعة تدرك اليوم وجود تناقض بين الهدفين المعلنين (تدمير “حماس” واستعادة المحتجزين)، بل تدرك أنه يتعذّر على الجيش تحقيق حتى الهدف الأول، بدليل أن الحرب صارت طويلة، مكلفة، وموجعة، وتبدو بدون أفق.
مع استمرار الحديث الرسمي عن مواصلة الحرب وحتمية الانتصار، مقابل استمرار المقاومة وإطلاق الصواريخ من بين أكوام الردم وإصابة وقتل جنود إسرائيليين يومياً، ينتج ما يُعرف بعلم النفس بـ “التنافر المعرفي” (دينوسانس) في وعي الإسرائيليين، ويرفع منسوب التشكيك بقدرة الجيش وبأهلية الحكومة على إدارة دفة الحرب وتحقيق غاياتها. كما أن انشغال الائتلاف الحاكم بذاته، وبالمصالح الفئوية، وإمعان نتنياهو بإدارة حملة سياسية شخصية ضمن حرب البقاء ينتج شكوكاً كبيرة بحساباته وخلطه للاعتبارات، وبحقيقة دوافعه في الحديث عن حرب تطول، يرى معارضوه أنها محاولة لإطالة عمر حكومته، حتى بثمن باهظ يسدّده الإسرائيليون بدماء أبنائهم الجنود. وهذا يأتي تزامناً، وبعد تصريحات وتقارير محلية ودولية تنقل عن مصادر سياسية وعسكرية إسرائيلية عليا تتهم نتنياهو، منها ما أوردته صحيفةُ “هآرتس”، أمس الأول، على لسان مصدر في مجلس الحرب بأنه لا يوجد مستقبل للحرب، وأن نتنياهو يجرجر ويتباطأ بغية الهرب من سؤال المسؤولية عن الفشل الذريع.
ايزنكوت، الذي يتمتع بمصداقية شخصية، بعيون إسرائيليين كثر، بصفته قائداً سابقاً للجيش، وثكل ابنه الجندي، قبل شهر، تُشكّل انتقاداته المنطقية لمجلس الحرب وتوجهات رئيسه نتنياهو، بالتلميح والتصريح، دفعةً معنوية لعائلات المحتجزين التي تخطط لتصعيد مساعيها محلياً ودولياً، خاصةً وهو يقرّ، في أول حديث صحفي له منذ شن الحرب، بأنه لا توجد قيادة في إسرائيل تبوح بالحقيقة للإسرائيليين.
وتابع: “ينبغي القول بشجاعة إنه لا يمكن استعادة المحتجزين خارج صفقة”.
كما تنعكس مثل هذه المفاعيل النفسية المرجحة في نفوس الإسرائيليين بما تقوله المعلقة ياسمين ليفي في صحيفة “هآرتس”، اليوم، وبلهجة ساخرة: “مَن نصدّق؟ متهماً مخادعاً؟ أم قيادياً أخلاقه عالية؟”.
ولا شك أن صمود المقاومة الفلسطينية، وحتى في شمال القطاع، مع صور عودة ملامح الحياة الطبيعية أمام (ورغم) الجحيم الذي حرق القطاع، ومواصلتها التمسك بشروطها من أجل إعادة المحتجزين، من خلال صفقة كبرى توقف الحرب مع ضمانات دولية، ومع بقاء “حماس” في السلطة، قد شجع عائلات المحتجزين وأنصارهم على تصعيد الحراك، والكفّ عن “الموقف المؤدب”، خاصة أن الرواية الرسمية الإسرائيلية قامت على أساس أن المزيد من الضغط العسكري سيدفع “حماس” لتليين مواقفها.
كذلك، وبخلاف الماضي، هناك انزياح، في الأيام الأخيرة، ونتيجة التطورات المذكورة وغيرها، في موقف وسائل الإعلام العبرية، التي باتت مناصرة لعائلات المحتجزين، وتمارس على طريقتها ضغطاً على صنّاع القرار من أجل استعادتهم كهدف رقم واحد.
“داخل قفص، وبلا هواء.. داخل نفق في خان يونس.. داخل الجحيم”، هكذا اختارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عنوانها الرئيس، وباللون الأحمر، اليوم الأحد، وذلك عطفاً على صور جديدة لمكان احتجاز المحتجزين. وكان الناطق العسكري، ليلة أمس، عرض صور “أقفاص” أودع فيها محتجزون إسرائيليون في ظروف معيشية صعبة، ومن المرجح أيضاً أن تساهم الصور الجديدة في صبّ الزيت على المظاهرات داخل إسرائيل.
وسارع الناطق العسكري دانئيل هغاري لنفي ما جاء في التقرير على لسان العسكريين الأربعة محجوبي الهوية، وقال إنهم لا يعكسون موقف الجيش، زاعماً أن إطلاق سراح المخطوفين هو جهد أعلى”.
وتوضح الإذاعة العبرية العامة ما من شأنه تعميق الشكوك باحتمالات الحرب، والدفع نحو اعتبار استعادة المحتجزين كأولوية أولى تستحق التظاهر من أجلها، ومناصرة مطلب عائلاتهم، وذلك بقولها إن الصفقة المشتهاة تحتاج لضغط عسكري من جهة، لكن هذا الضغط إما لا يعمل، وإما هو غير موجود، بعد 106 يوماً من حرب طالت، معتبرةً أن التقدم بالضغط ودخول منطقة رفح مهمة شبه مستحيلة، نتيجة تكدّس عددٍ كبير من اللاجئين، ووجود عدد كبير من المحتجزين بيد “حماس” هناك، باتوا يشكّلون درعاً بشرياً لقادتها.
وتابعت: “الجيش يطالب بالمزيد من الصبر، ويقول إنه يحتاج لعدة أسابيع، لوجود كمية كبيرة من الأنفاق، ولكن معضلة رفح المزدحمة باللاجئين باقية.. وماذا نفعل مع قيادات “حماس” وهم محاطون بمخطوفين”؟
في سياق الحديث عن صورة الموجود والمفقود في القطاع، ينبّه المحاضر في جامعة تل أبيب دكتور ميخائيل ميليشتاين إلى أن الفلسطينيين ينظرون لمراوحة الجيش في المكان واستمرار المقاومة في شمال القطاع ويقولون لأنفسهم: “حماس لم ننتصر في هذه الحرب المدمرة، ولكنها لم تهزم”.
من هؤلاء الجنرال البارز في الاحتياط عاموس غلعاد، الذي يحمل على حكومة نتنياهو، في مقال نشرته “يديعوت أحرونوت” تحت عنوان “سياسة صغيرة وفشل كبير”. ويكرر غلعاد تحذيره من أن نتنياهو يقود سياسة امتناع عن إستراتيجية الخروج من غزة بسبب حاجات سياسية.
ويتقاطع معه المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، الذي يجدّد، هو الآخر، حملته على المستوى السياسي، ويقول إن إطلالاته التلفزيونية الأخيرة بائسة، استبدلت فيها البلبلة والقلق بغطرسة وعجرفة وتطاول على الصحفيين.. وفوق كل ذلك ترفرف سياسة “عدم اتخاذ قرارات”.
كما يرى هارئيل، على غرار مراقبين آخرين كثر: “الحرب في كل الاتجاهات تقترب من مفترق الحسم، وفي الشمال يتطور تحدٍ إستراتيجي دون قرارات لا في غزة ولا مقابل حزب الله”.
منوهاً بأن “كل ذلك يحدث فيما يرفض نتنياهو البحث في طريقة إنهاء الحرب، ويبدو كمن يدير كامبين، فيما تزداد قضية المحتجزين إلحاحاً”.


