«إعادة الإحياء».. لا «إعادة الإعمار»..مصطفى حجازي

السبت 06 يناير 2024 01:53 م / بتوقيت القدس +2GMT



يبدأ العدوان بدعوى درء عدوان، أو احتواء خطر، أو ردع فاسدين، أو اقتلاع مخربين.. لكن ما يلبث أن يتجاوز الردع والاحتواء إلى الانتقام والإمعان في إيلام الضحية وإذلالها، ومن شبق الانتقام إلى التوحد مع التوحش والتدني، والرغبة السادية في الخراب والدم، وقتل جوهر الحياة ومعناها وتسويد المعاناة والمذلة.
لا يخلو عدوان من ادعاء مثالية ومن انتحال القيمية والتدثر بـ«المطلق» ومصادرته.. وليس أوضح من التدثر بغلالة الخير في مواجهة الشر وأهله.. فكل عدوان أشِر لا ينفك عن نزع كل صفات الخير عن ضحيته التي يلَغُ في دمها.. عن محاولة طمس كل حقيقة مهما كانت فطرية تقارب الحق.
حين يُذكر العدوان وآثاره.. لا يتبادر إلى الذهن أكثر من معتدٍ مسلح يصب جام نيران آثمة على ضحايا أبرياء أو خصم مكافئ.. ولكن أين سلب الحق التاريخي من مرادفة العدوان..؟!، أين الفصل العنصري وسلب القدر والحق في الوجود والحياة..؟!، أين طمس التاريخ وتدمير الحضارة..؟!، أين اغتيال سكينة المدن وهدر قدسية السكن.. أين مصادرة المجال العام فكراً وتعبيراً وإبداعاً..؟!، أين اختطاف الحلم واحتكار الأمل في غد أرفق وأعدل لصالح جوقة أو ثلة آثمة..؟!.
في كتابها «عقيدة الصدمة».. وعنوانه الفرعي «صعود رأسمالية الكوارث».. تساوي «ناعومي كلاين» بين الغزو العسكري الأميركي للعراق ٢٠٠٣ والذي سُميت عملياته «الصدمة والرعب»، وبين صعود نظام بينوشيه إلى سدة الحكم في تشيلي بعد انقلاب دموي، والأهم تماهي نظام بينوشيه في عقيدة ميلتون فريدمان وأبناء شيكاغو تلك المجموعة النيوليبرالية التي تؤمن بأن حرية قوى السوق قدرٌ منزّل مثل قوى الطبيعة لا تملك لها رداً.
كما تسوق كلاين في مقارنتها كيف كانت الهرولة بعد صدمة تسونامي سريلانكا عام ٢٠٠٤ إلى الاستثمار في تداعيات الكارثة التي فرغت سواحل سريلانكا بواقع الهلع، وتسليم الشريط الساحلي المميز لمقرضين دوليين لتحويله إلى منتجعات مخملية، حتى أعلنت حكومة سريلانكا أنه «من خلال ضربة عنيفة للقدر، قدمت الطبيعة إلى سريلانكا فرصة فريدة من نوعها، وسيولد من رحم المأساة مقصد سياحي عالمي»..!.
وطالما سمعنا على إثر كوارث مفجعة كإعصار «كاترينا» في نيو أورلينز في أميركا كيف يتحدث الساسة الجمهوريون، وحصراً مقاولو الطرق عما يسمى «الصفحات البيضاء».. أي ما انتهى إليه دمار الإعصار بأن أباد مناطق بأكملها، لتصبح كما يرونها جاهزة لإعادة سلب رحيقها الاقتصادي بعمليات بناء وإعمار، ظاهرُها رحمة التنمية وباطنُها فيه عذاب قتل سكينة المدن.
وليس أبلغ من توصيف جوهر مفهوم العدوان المتجاوز لفكرة تدمير ما كان ما قاله مايك باتلز، أحد رجال المخابرات المركزية الأميركية، إبان حرب العراق، حين قال «قدّم الخوف والفوضى إلينا فرصة ذهبية في العراق» - وهو يقصد ما أسفر عنه العدوان العسكري من أشكال عدوان أعمق وأشد بددت استقرار المجتمع العراقي، وتركته في مهب ريح مجرمي الحرب وهم منهم - حيث حصلت شركات الأمن الخاصة على عقود فلكية مع الحكومة الفيدرالية.. ولاحظ أن ترتيب «الخوف» يأتي قبل «الفوضى»..!.
إذاً فقضية «العدوان» في جوهرها ترمي إلى سلب وعي وإرادة الضحية بالخوف والترهيب، والزج بها في دهاليز الذهول وشلل الفكر، وانعدام القدرة على الفعل المنطقي أو المنتج أو المجدي، حتى يتمكن المعتدي من إنفاذ جُرمه.. سلباً للأرض والمقدّرات كان.. أو سلباً لحق الحكم في النفس والأرض والحياة..!.
وقد نرى في ذلك بعضاً من تفسير تلك الوحشية التي تصب بها إسرائيل كل تلك الحِمَم على أطفال ونساء وشيوخ عُزل.. هي تعرف أنها تريد أن تقتل الحلم، تسحق الأمل وتسلب الإرادة.. تكرس القنوط.. تختزل الفعل والفكر في الرغبة في البقاء حياً، حتى لو كان هروباً من مقلاة موت إلى نار موت آخر..!.
كما نرى فيه تفسير تبلُّد الضمير مع وحشية «الصدمة والرعب» التي استخدمتها أميركا في العراق حرباً، وفي تشيلي ومن مثلها سلماً وتنمية..!.
وقد نرى في ذلك تفسيراً للتلاقي المتنامي بين المصالح الهائلة والكوارث العظمى، كوارث طبيعية قدرية لا دخلَ مباشراً للبشر فيها إلا بقدر العبث في النظام البيئي والاستقرار المناخي.. أو كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية هي من صنع البشر جهالةً واستبداداً وتجبُّراً وأثَرة.
وإن كان في النوع الأول من الكوارث، تُبدَّد سكينة المدن، تُمَزَّق وتُمسَخ بـ«وحشية الدمار».. ففي النوع الثاني تُهان المدن وتُمسخ، يُمزَّق نسيجها الإنساني وتُنزع سكينتها بالخوف السرمدي قبل «عشوائية الإعمار»، وفي ذلك «وحشيته»..!.
في الحالة الأولى، وتحت وطأة الكوارث الناجمة عن قوى الطبيعة أو دمار الحروب.. تُسحق حياة البشر وتُشلًّ قدرتهم عن الفكر وتُسلب إرادتهم في الفعل في مواجهة دمار فوق طاقة استيعابهم، أو قدرتهم على تجاوزه أو التعاطي معه، أو حتى احتواء آثاره والالتفاف حولها إلا في أضيق الحدود.
أما في الثانية، وتحت وطأة كوارث ناجمة عن وجدان سقيم يكره المجال العام ويخافه.. تُنزع سكينة حياة البشر في مدنه وأحيائه بضلالات تنمويّة لا تأبه لمقاصد الإنسان من السكن، من تناغم وسلاسة تواصل وانفتاح على المجال العام نفسياً ومادياً، وتماهٍ بين الخصوصية الشخصية وسعة الفراغ العام تسمح بحرية الحركة والفكر.. ضلالات مسجونة في صِيَغِ «أفعل التفضيل» بين أكبر وأضخم وأسرع وأرقى وما شابه.
وحين نتحدث عن ضرورة إزالة آثار العدوان.. فليس الأمر مقصوراً في المعنى السطحي «لإعادة إعمار» ما دُمِّر، بل توجب أن يمتد إلى «إعادة إحياء» ما قُتل في النفوس بالدمار تارةً وبالإعمار الزائف تارة.
ولكي نجلّي الأمر.. تجدر الإشارة إلى دراسة هامة عن كيف اغتالت الطرق السريعة المدن الأميركية..!.
قد يستغرب بعضنا ذلك أن في قدس الطرق السريعة في العالم، وهو الولايات المتحدة، مازال الأمر موضع النقد والبحث والدراسة.. ولكي نُزيل الغربة بغربة أعمق.. ما بالنا أن الأمر هناك، والذي وصم بالاعتداء على المجال العام وباغتيال المدن تجاوز التعامل معه من النقد إلى النقض..!.
أي أن القوى المجتمعية استطاعت أن «تزيل آثار عدوان إعماري» كان ممثلاً في طريق «الإمباركاديرو» الشهير في سان فرانسيسكو، والذي تمت إزالته لتستعيد تلك المنطقة طابعها كرئة للمدينة كانت قد سُدَّ هواؤها بذلك الصرح القبيح، والممثل في طريق سريع سيقت لإنشائه طنطنةٌ كثيرة حول وفر الوقت وسرعة الربط بين أجزاء المدينة الكوزموبوليتانية الكبيرة.. ولكن ما لبث أن ثبت تهافت تلك الحجج.. وهو بالمناسبة لم يشيَّد لحصار حركة السكان أو للحيلولة دون نجاعة تفاعلهم، كما في تصورات أخرى.. لدى إسرائيل في غزة ومن مثلها.
ليس فيما سقناه أي تزيُّد أو إقحام لرفاهيةِ فكر ترى في بعض الإعمار دماراً.. ولكن ولأن الأمور بمقاصدها ومقاصدنا هي أوطان أرغد وأعدل وأرفق وأكثر منَعةً واستقراراً.. فإن ما سقناه من آثار الصدمة المستدامة التي تخلفها العشوائية، فهو للوقوف على تداعياتها.. كعقم قدرة المجتمعات عن الإبداع والتنمية، بل وعقم القدرة عن الدفاع عن النفس حين يجدُّ الجِد ويدعو الداعي.
وما أسلفناه لا يقلل من ضرورة التحديث والتطوير في إطاره التنموي، بل العكس يحض عليه.. لكن يؤكد أن قياس المنجز الإنساني بات مرهوناً بمقاصد تتجاوز الكم والنمطية وسرعة الأداء.. نحو اقتصاد يورِث سعادةً وتعليماً يؤهل للترقي ويفتح آفاقه.. وأن يؤطّر ذلك كله في إطار قيم إنسانية أكثر تناغماً للحرية والعدل والكرامة مع كل موروث البشر من الأيديولوجيا والفكر والدين والثقافة.
ولكل من قد يرى أن الواقعية والبراجماتية تقتضينا أن نقبل بفتات الأمل في مجرد إيقاف العدوان، كما في فلسطين - أو غيرها ـ وإعادة بناء ما تهدَّم وكفى.. نقول «إن تواضع الحلم مقتله».. وإن الأَوْلى والأبقى هو «إعادة الإحياء» بإزالة أصل العدوان، وعياً وتنويراً وحضاً على التمسك بالحقوق، واقتفاءً للعدل بلا هوادة.. وليس فقط «إعادة الإعمار» وإزالة آثار العدوان، وفي ذلك قبول بحق المعتدي في جرمه بل وبقائه.. والأدهى القبول والتماهي في الجَور باسم بعض عدل.
فَكِّرُوا تَصِّحُوا..