هذا نص قادم من هناك، من أرض الاحتمالات، حين يكتب فنان مسرحي غزي شهير مثل علي أبو ياسين يومياته وتأملاته فعلى الصمت أن يتقدم، فثمة دائماً في نصوص المسرحيين تلك المداخل المتوترة الخاصة بإيقاع الأماكن وبحزن اللغة وعفوية الصورة.
منذ أيام مضت وباريس والمخرج السينمائي الكبير رشيد مشهراوي لم يغيبا عن بالي، وتحديداً في مثل هذه الأيام من العام الماضي؛ فلا تزال الصور والمشاهد تتقافز في رأسي مثل فلاشات الموبايل الذي كان يحمله رشيد وهو يلتقط لي مئات الصور وعشرات الفيديوهات في كل زاوية من باريس.. من نهر السين إلى برج إيفل.. حتى ساحة الباستيل، مبني اللوفر، كنيسة القلب المقدس، كنيسة نوتردام، شتو روج، ساحة التظاهرات، أهم المطاعم، مومبي دو، شتليه، ستراس بورق سانتونيز.. إلخ.
وأول درس قال لي يجب أن تتعلم كيفية ركوب المترو وحدك والذي من دونه لن تستطيع أن تتجول وحيداً وتظل حبيس الفندق. لم يترك بلدة مهمة في باريس إلا وعلمني كيف أصل لها ثم أعود إلى مكان سكناي في مدينة الفنون. كنا كل يوم نمشي ساعات طوال على أقدامنا وكأنه يعطيني مفاتيح المدينة ويكشف لي عن أسرارها التي في كثير من الأحيان لا يعرفها الفرنسيون. ويحكي لي قصة كل منزل ولوحة ومنحوتة وشارع وزقاق. كان كالمخلّص لي من شبح الوحدة القاتل الذي كاد يقتلني، كما كان حاضراً بجواري في الحرب رغم بعده الجسدي في كل يوم وكل ساعة.. شكراً صديقي الغالي.
ما زالت المشاهد تتقلب في رأسي.. كل زاوية وركن وصديق تعرفت عليه، خصوصاً أنني لحظة النزوح إلى دير البلح ارتديت الحذاء نفسه الذي كنت أرتديه في باريس المقاوم للماء والمصنوع من الجلد الأصلي. فلا أعلم لماذا كلما انحنيت لأربط الحذاء للذهاب إلى سوق البلد أو سوق المعسكر بالدير أشاهد الحذاء، فتقفز أمامي صور باريس.
لكن فجأة اكتشفت أن غزة في الحرب أصبحت تشبه باريس كثيراً، فمثلاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، باريس مدينة صاخبة تضج بالحياة ولا تنام الليل؛ فالمطاعم والكافيهات والمواصلات والمحلات وكل شيء يظل ساهراً حتى الصباح مثل غزة تماماً؛ نسهر حتى الصباح على أصوات الصواريخ وقذائف البوارج الحربية والمدفعية، وأصوات الاشتباكات، وصوت الزنانة الذي لا يتوقف بتاتاً.
وأيضاً في باريس هناك طابور أينما ذهبت، فمثلاً إذا أردت أن تقطع تذكرة للدخول لمتحف اللوفر، فلا بد أن تقف في الطابور لوقت طويل. أردت زيارة قصر فرساي الطابور نفسه. دخول المومبي دو كذلك الأمر. مثل غزة تماماً لو أردت أن تشتري سطل ماء أو خبز صاج، أو تجرأت وفكرت أن تذهب إلى النصيرات لتعبّئ جرة غاز، فالطابور من الدير إلى النصيرات، فلدى باريس طابور ولدينا طوابير!
أما بالنسبة لنظافة الشوارع في باريس، فشوارعنا أنظف كثيراً؛ فلا يمكن بل يستحيل أن تجد ورقة على الأرض أو قطعة خشب أو ملابس بالية أو قطعة بلاستيك، فكل ذلك أصبح كالكنوز الملقاة على الأرض؛ لأن الجميع يستخدمها لإشعال النار لطهي الطعام. وباقي أنواع القمامة إن وجدت سوف يعاد تدويرها بإبداع منقطع النظير.. فمثلاً لو كنت من المحظوظين ووجدت تنكة زيت مصنوعة من الحديد، فسوف تصنع منها أرقى فرن من طابقين يعمل على النار للخبز والطبيخ، وقد تؤجره بالساعة وتصبح من الأثرياء. وبذلك أصبحت غزة أنظف من باريس.
أما بالنسبة للمواصلات، فباريس يشتهر سكانها بركوب الدراجات الهوائية توفيراً للوقت والمال ولممارسة الرياضة. مثل غزة تماماً أصبح معظم الناس يركبون الدراجات الهوائية؛ لأنه لا يوجد غيرها وغير الحمير وسيلة مواصلات. أما الرياضة فلسنا بحاجة لها؛ لأننا نجري ليل نهار خلف مليون شغلة، ومليون شغلة تجري وراءنا.
في باريس الأسعار باهظة الثمن وقد تكون من أغلى الأسعار في العالم، فمثلاً كنت أشتري البيضة بنصف دولار، وكيلو الملح بخمسة دولارات، وقس على ذلك. أما في غزة فتفوقنا على باريس بأسعارنا.. في الحرب أصبح كل شيء سعره أغلى من باريس. مثلاً كيلو الملح اقترب من العشرة دولارات، رغيف الخبز تقريباً بنصف دولار، البيضة الواحدة بنصف دولار.. فلو كان عدد أفراد عائلتك أكثر من عشرة أشخاص تحتاج في كل يوم طعاماً بما يقارب ١٠٠ دولار. وأخيراً وجدنا شيئاً نتفوق به على باريس.
الآن باريس تتزين بأبهي حللها من الإضاءة والألوان المزركشة، وكل ما يتاح ليجعل المدينة أجمل احتفالاً وابتهاجاً بقدوم العام الجديد. مبني "هوتل دي فيل"، أو بلدية باريس الموجود وسط العاصمة، يتزين الآن بأجمل تصميمات الإضاءة، والأطفال يلهون من حوله، ويصبح ملتقى للسائحين والأهالي والعشاق. وبرج إيفل يعانق السماء بأروع إضاءة تشاهدها. وكذلك سماء غزة تتزين بقنابل الفوسفور المضيء والألعاب النارية من أغلى وأقوى وأشد أنواع الصواريخ بالعالم.
يذهب عام، ويأتي عام، وفي كل عام لا نزال نحلم بالحرية.
من غزة، إلى باريس.. إلى رشيد.. أشتاق لكما، وكل عام وأنتم بألف خير.
16/12/2023
علي أبو ياسين/ غزة