مستقبل غزة إلى أين؟ سنية الحسيني

الخميس 30 نوفمبر 2023 05:22 م / بتوقيت القدس +2GMT
مستقبل غزة إلى أين؟ سنية الحسيني



في أعقاب الهدن المتتالية التي بدأ الحديث عنها وتنفيذها مع نهاية الأسبوع الماضي، والتي تبلورت وتوسعت في إطار لتبادل الأسرى الفلسطينيين والمحتجزين الإسرائيليين، وإدخال الاحتياجات الفلسطينية الضرورية للحياة عبر معبر رفح، اعتبر بايدن، أول من أمس، أن استمرار الهجوم الإسرائيلي على غزة يأتي لمصلحة حركة «حماس»، في تراجع عن دعمه لاستمرار هجوم إسرائيل على غزة.
ومؤخراً، غيّر الإعلام الأميركي مصطلحاته المستخدمة في التعامل مع هذا الهجوم، والتي انتقلت من هدن إنسانية إلى هدن طويلة الأمد حتى وصلت إلى وقف لإطلاق النار، في تطور سياسي أميركي لافت. كما تأتي زيارة رئيسَي المخابرات الأميركية والإسرائيلية لقطر، أول من أمس، في إطار الحديث عن بلورة صفقة متكاملة وموسعة استكمالاً لصفقات الهدن المتتابعة المحدودة، في ذات السياق.
وعلى الجانب الآخر، تواصل الحكومة الإسرائيلية وجيشها التأكيد على استعدادها لمواصلة هجومها على غزة باتجاه الجنوب، وأنها ملتزمة بإعادة المحتجزين عبر الهدن أو الحرب. ويبدو أن إسرائيل لا تزال تتمسك بذلك الخطاب حفاظاً على ماء وجهها، في ظل عدم تحقيقها للأهداف المعلنة من هجومها على غزة باستعادة المحتجزين الإسرائيليين بالقوة والقضاء على «حماس». وابتعدت المواقف الأميركية والغربية تدريجياً عن احتضان الهجوم الإسرائيلي على غزة، خصوصاً بعد ارتكاب جيش الاحتلال مجازر بحق المدنيين في غزة. وقتلت إسرائيل في ذلك الهجوم الانتقامي على غزة أكثر من ٢٠ ألف مدني فلسطيني، وجرحت ضعف ذلك العدد، ودمرت ٥٠ في المائة من بنية القطاع، في ظل انتهاكات وصفت من قبل منظمات غربية وإنسانية بالأشد خلال هذه الألفية. فما هي فرص استئناف هذا الهجوم في ظل المتغيرات الحالية؟
تبدلت مواقف الإدارة الأميركية تدريجياً من العدوان الإسرائيلي على غزة في أعقاب أحداث «السابع من أكتوبر»، وبعد أن بلغ دعم الولايات المتحدة لذلك الهجوم الإسرائيلي الانتقامي على غزة مستوى جعلها توصف بالشريكة في هذا الهجوم، في إطار دعم سياسي ومالي وعسكري واستخباراتي، وتبنٍّ مطلق للرواية الإسرائيلية دون تحقق. ودفعت جرائم إسرائيل الولايات المتحدة لنصحها لها بعدم الذهاب لهجوم بري غير مضمون النتائج، والاستفادة من تجربة الولايات المتحدة في غزوها لأفغانستان والعراق بعد هجمات «الحادي عشر من سبتمبر»، وتجنب استهداف المدنيين، والسماح بإدخال الاحتياجات الإنسانية للقطاع. إلا أنه وتحت وطأة الهجوم البري، الذي لم يحقق أهدافه، وتصاعد أعداد الشهداء والجرحى الفلسطينيين، تصاعدت الأصوات المعارضة لسياسة الولايات المتحدة تجاه هذا الهجوم، ومن داخل الإدارة الأميركية نفسها، سواء في البيت الأبيض أو وزارة الخارجية أو وكالة الاستخبارات التي لوّح مسؤولون فيها بخطورة مواقفها من الهجوم الإسرائيلي على مستقبل سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لعقود قادمة. كما واجهت إدارة بايدن معارضة داخل أروقة الكونغرس، في ظل تصاعد الاحتجاجات الشعبية في ولايات أميركية عدة، خصوصاً تلك التي جاءت من أوساط الطلاب والديمقراطيين من الشباب والجالية العربية والإسلامية، والتي هددت مستقبل بايدن الانتخابي في الولايات المتأرجحة. إن ذلك يفسر تلك التحولات الجوهرية في موقف الإدارة من تبني مفاوضات الهدنة، ودعواتها لتوسيع مفاوضات التبادل، ومن المشكوك به أن تشجع رغبة إسرائيل بمواصلة هجومها على غزة في الأيام القادمة.
إن هجوم إسرائيل الانتقامي على غزة كشف عن وجهها الحقيقي أمام العالم الغربي، الذي تناست قيادته عبر العقود الماضية واقع الاحتلال وممارساته، وحق الفلسطينيين بالتحرر وتقرير المصير. وحصرت معظم الحكومات الغربية القضية الفلسطينية خلال العقود الماضية بالمساعدات المالية، والقليل من حقوق الإنسان. وجاء دعم معظم الدول الغربية لهجوم إسرائيل على غزة في أسابيعه الأولى استرشاداً وتبعية للموقف الأميركي والرؤية الإسرائيلية للحرب، خصوصاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا. إلا أن تطورات ذلك الهجوم وهمجيته أعادت ترتيب المواقف الغربية، تحت وطأة الاحتجاجات الطلابية الشعبية، فاجتاحت لندن احتجاجات طلابية وشبابية لم تشهد مثلها العاصمة البريطانية من قبل، ناهيك عن اعتراضات على سياسة البلاد من داخل الحكومة ومجلس النواب، الأمر الذي استدعى إقالة أحد الوزراء، ودعوة رئيس الوزراء إلى هدنة كان يرفضها بإصرار. في فرنسا كذلك خفت حدة تصريحات الرئيس الفرنسي الداعمة لهجوم إسرائيل على غزة، وباتت تميل نحو مراعاة المدنيين والذهاب لهدن إنسانية، في ظل معارضة من داخل الحكومة ووزارة الخارجية، بضرورة مراعاة علاقة فرنسا بدول الشرق الأوسط، ومراعاة جالية عربية وإسلامية ضخمة في البلاد، ونظمت احتجاجات عديدة انتقاداً لموقف فرنسا من ذلك الهجوم، في ظل مجتمع يعد الأكثر تأييداً للفلسطينيين من بين شعوب الاتحاد الأوروبي. وشهدت شوارع عواصم الدول الأوروبية أكبر احتجاجات شبابية وطلابية واسعة ومستمرة طوال الأسابيع الماضية، ضغطت على حكوماتها لتبني مواقف أقل حدة باتجاه دعم هجوم إسرائيل، وأكثر اقتراباً بالدعوة لوقف إطلاق النار على غزة، الأمر الذي يجعل دعمها مستقبلاً لاستئناف الهجوم على غزة، خصوصاً بعد خروج المحتجزين الإسرائيليين أقل ترجيحاً.
كشفت تصريحات إسرائيل بعد هجومها على غزة عن الوجه الحقيقي لحكومة الاحتلال أمام الحلفاء العرب، خصوصاً بعد أن طلبت من مصر فتح حدودها لاستقبال الفلسطينيين، وفتح ذلك أيضاً النقاش مع الأردن حول نوايا مشابهة لليمين الإسرائيلي لاقتراف ذات الجريمة بالتهجير القسري بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية باتجاه الأردن أيضاً. كما أن سياسة إسرائيل في غزة كشفت مدى دموية ذلك الاحتلال، ومدى الخطر الذي يشكله في المنطقة بشكل كلي.
وأما عن الشارع الإسرائيلي، الذي أيّد غالبيته الهجوم على غزة بعد «السابع من أكتوبر»، فلن يبقى مسانداً لاستمرار الهجوم في ظل اعتبارات عدة، أولها نجاح المفاوضات وليس الحرب في الإفراج عن المحتجزين، والرغبة الإسرائيلية في عودة جميع المحتجزين والأسرى كذلك، في ظل ذلك الطريق الذي أثبتته التجربة. كما أن استمرار الهجوم دون تحقيق أهدافه طوال الأسابيع الماضية، مع استمرار الاستنزاف البشري والاقتصادي وحالة عدم الاستقرار في البلاد يرجحان عدم المصلحة في استمرار الهجوم.
كشفت غزة الأقنعة وأحرجت حكومات دول عظمى أمام شعوبها، وفرضت القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وحق لتقرير المصير، بالقوة على العالم، الذي تناساها لعقود وبات مطالباً اليوم بالوقوف أمام التزاماته تجاه الشعب الفلسطيني. لم توضع حلول بعد لما بعد الهجوم على غزة، وكيف سيتم التعامل معها، في ظل معطيات لم تكن في الحسبان، إلا أنه في النهاية لا بقاء للاحتلال. وللشعب الفلسطيني الحق في تقرير مصيره، وحتى ذلك الحين، وحتى لا تستمر الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، والتي شهدها العالم بقوة على مدار الأسابيع الماضية، وتغافل عنها لعقود، نحن بحاجة لإجراءات انتقالية لحماية الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، كتواجد قوات أممية على سبيل المثال تحمي المدنيين الفلسطينيين من جرائم الاحتلال.