ليس من الغريب استمرار بعض التقاليد أو الممارسات عند السكان رغم اختلاف الأزمان والفترات، فعلى سبيل المثال، إن حفر الأنفاق للأغراض العسكرية في قطاع غزة تقليد ضارب في القدم، يمكن تتبع دلائل وجوده إلى أكثر من 3550 سنة من وقتنا الحالي، أي إلى فترة العصر البرونزي الوسيط، وكشف عن هذه الأنفاق عالم الآثار البريطاني، فلندرز بيتري، أثناء تنقيباته التي أجراها في موقع تل العجول (غزة القديمة) في الفترة الواقعة ما بين 1930 - 1934م، حيث ربط علماء الآثار هذه الأنفاق بالأحداث التي تزامنت مع معركة شاروحين، والتي افترض معظم علماء الآثار أنها مدينة غزة القديمة، في حين يرى بعض الأثريين أن معركة شاروحين ربما ارتبطت بمواقع مجاورة لمدينة غزة، ومنها موقع تل الفارعة الجنوبي، أو موقع تل أبو هريرة والواقع بين بئر السبع ومدينة غزة.
يأتي الترجيح من علماء الآثار بأن شاروحين هي غزة القديمة (تل العجول) لما تتميز به من أهميته جغرافية وعسكرية، وكونها واقعة بالقرب من مصب نهر وادي غزة على بعد 10 كم جنوب مركز مدينة غزة الحديثة، ولوقوعها على طول الطريق القديم الذي ربط بين آسيا وأفريقيا على مر العصور، مع الأخذ بالاعتبار المساحة الكبيرة التي تميز بها موقع مدينة غزة القديمة إذ وصل إلى حوالى 125 دونماً، ولتحصينات الموقع الدفاعية القوية التي اشتملت على منحدرات مائلة تمثلت بدكّات ترابية كانت من مميزات التحصينات الدفاعية الضخمة خلال العصر البرونزي الوسيط، والتي أقيمت بهدف منع الأكباش (مدكّات) التي قد يستخدمها المهاجمون لفتح ثغرات في أسوار المدن تمهيداً لاقتحامها، وكذلك تميزت هذه التحصينات في مدينة غزة بوجود خندق عميق حفر حول الموقع من ثلاث جهات، إضافة إلى وادي غزة في الجهة الرابعة من الجنوب، وكان بالإمكان ملء الخندق بالماء ليشكل حاجزاً بين المدافعين والمهاجمين يصعب اقتحامه.
ومن المؤشرات التي تقودنا إلى اعتبار غزة القديمة بأنها موقع شاروحين هو غنى المواد الأثرية التي عثر عليها في الموقع ذاته، إذ عثر على مجموعة من ثلاثة كنوز من المجوهرات الذهبية تعود للعصر البرونزي الوسيط في موقع تل العجول تضم الأقراط والأساور والحلقات والدبابيس والخرز والجعارين «الأختام» المصرية، ومعظم المجموعة محفوظة الآن في المتحف البريطاني في لندن ومتحف روكفلر في القدس، وتصنف ضمن أهم اكتشافات العصر البرونزي في منطقة بلاد الشام. كما ارتبط الموقع بميناء بحري فعال.
وقد كشف بيتري عن نفقَين مقطوعَين في الصخر الرملي (حجر الكركار) يمران بمحاذاة النصف الشمالي من الجهة الشرقية للموقع (غزة القديمة/ تل العجول)، تبدأ من السور الدفاعي، وتمتد أسفل المنحدر المائل، وأطلق على أحد الأنفاق اسم النفق العلوي، وسمّي الآخر النفق السفلي. بلغ طول النفق العلوي أكثر من 150 متراً، وكان ارتفاعه من 1.35 إلى 1.85 متر وعرضه بين 0.84 إلى 1.35 متر، بينما كان النفق السفلي أقصر، وبلغ طوله حوالى 30.5 متر.
ربط علماء الآثار تلك الأنفاق بمعركة شاروحين التي حدثت أثناء مطاردة الفرعون المصري أحمس الأول لمجموعات الهكسوس التي سيطرت على منطقة الدلتا ووسط مصر، إبان حكم الأسرة الخامسة عشرة والسادسة عشرة (حوالى 1650 - 1550 قبل الميلاد)، أطلق المصريون القدماء على الهكسوس بالحكام الأجانب، وتعود أصولهم إلى الكنعانيين، فهم بالأصل من منطقة سورية وفلسطين، وقدموا إلى مصر كجنود وتجار وعبيد...، واستغلوا ضعف الحكم في مصر فاستولوا على مقاليد السلطة، وكانت عاصمتهم أفاريس (تل الضبعة).
لقد كانت معركة شاروحين مواجهة فاصلة ضمن محاولات إعادة بسط النفوذ المصري على فلسطين في الفترة الواقعة ما بين نهايات العصر البرونزي الوسيط وبدايات العصر البرونزي المتأخر، أي حوالى 1550 قبل الميلاد، فشهدت معركة شاروحين دفاعاً مستميتاً من قبل الهكسوس عن مدينتهم حين حاصر الفراعنة المصريون شاروحين، واستمر حصار الموقع مدة زمنية طويلة، وصلت إلى ثلاث سنوات متواصلة، يبدو أنها فرضت على سكان شاروحين حفر الأنفاق التي ربما ساعدتهم في الصمود خلال فترة الحصار إلى أن تمكن القائد المصري أحمس الأول من السيطرة على الموقع ومواصلة الزحف إلى بقية المدن الكنعانية.
ويبدو أن هذه الأنفاق ساعدت سكان مدينة شاروحين على ضمان الإمدادات الغذائية أثناء الحصار الطويل عندما حاول المهاجمون تجويعها حتى تخضع، وعلى الأغلب مكنت هذه الأنفاق المدافعين من الهروب وقت الحاجة. ويظهر أن اختيار حفر الأنفاق بالاتجاه الشمالي الشرقي من الموقع كان متعمداً لوجود مقبرة العصر البرونزي الوسيط في هذه المنطقة، للافتراض القائم على تجنب أحمس الأول من إنشاء معسكره فيها بسبب تضاريسها غير المنتظمة، من أجل إبقاء جنوده المحاصرين للموقع خارج نطاق مرمى الرماة المدافعين والواقفين على قمة سور المدينة.
كشفت التنقيبات الأثرية في تل العجول عن قصر ضخم بنيت أساساته من حجارة رملية كبيرة الحجم، احتوى على ساحة مركزية واسعة، أحيطت بغرف متعددة الاستعمالات، ويظهر في القصر دمار ملحوظ وطبقة حرق ورماد يبلغ سمكها حوالى 15 سم، وهي تنتشر على نطاق واسع، وتعود إلى نهاية العصر البرونزي الوسيط نتيجة لحملة أحمس الأول على تل العجول، وكذلك يمكن ملاحظة هذا الدمار في معظم مدن فلسطين الكنعانية أثناء ملاحقة أحمس الأول للهكسوس وإخضاعها للحكم المصري مثل مدينة أريحا القديمة «تل السلطان»، وتل بلاطة «شكيم»، وتل الجزيري «أبو شوشة» وغيرها. وعثر في تل العجول «غزة القديمة» على مبان سكنية وتحصينات منيعة خاصة في القسم الشمالي من الموقع، ومقبرة ضخمة تضم 598 قبراً اشتملت على مرفقات جنائزية متنوعة من الأسلحة والحلي والخزف.