شكّلت العملية الجسورة لـ»حماس» في السابع من تشرين الأول مفاجأة للجميع، حتى أنّ المشاركين فيها تفاجؤوا من سهولة الانتصار وحجمه، ومع اندلاع الحرب العدوانية على غزة لم يستوعب العقل الفلسطيني مدى الهمجية والفظاعة والإجرام الوحشي للجيش الإسرائيلي، وفداحة الخسائر البشرية، وحجم الدمار والتخريب الهائل والكارثي الذي أصاب غزة.
ونتيجة لذلك، انقسم الفلسطينيون بين من أيّد العملية بشكل مطلق، وتقبّل نتائجها وتداعياتها، معتبرين الكفاح المسلح الطريق الوحيد والصحيح، ولا قيود ولا محاذير على ممارسته، وهذه مرحلة الانتصار، والبدء فعلياً بمرحلة التحرير، مراهنين على محور المقاومة، وعلى الشعوب العربية والإسلامية، وأن إسرائيل لا تحتمل حرباً طويلة، وهذه التضحيات مقبولة ومستحقة وضرورية حتى لو بلغت مئات الألوف من البشر.
مقابل من رأى في العملية مغامرة غير محسوبة جرّت كل هذه الويلات على غزة.. معتبرين أن الكفاح المسلح وصل طريقاً مسدوداً، ولم يعد خياراً ناجعاً، والبديل هو المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والتي بإمكانها إحداث تغيير كبير، وأنَّ هذه مرحلة صمود وثبات، ومرحلة الانتصار والتحرير ما زالت بعيدة ولم تتوفر شروطها بعد، والتضحيات يجب أن تكون معقولة ومدروسة، وأشكال المقاومة يجب أن تتناسب مع قدرات الشعب، ولا رهان على محور المقاومة، أما الجماهير العربية والإسلامية وشعوب العالم فهي جبهة مساندة وتأثيرها على المدى الطويل، ونقطة ضعف إسرائيل في المجال السياسي، ونقطة قوتها في المجال العسكري، وممارسة المقاومة تختلف عن إعلان الحرب التي تستدعي ردة فعل عنيفة جداً، ومساندة عسكرية مباشرة من الناتو.
وهناك من كان يطالب بالتضحية والعمل المسلح، ثم صار معارضاً لـ»حماس»، لأنها هي من قامت بالعملية، وانتصار «حماس» سيعني انتصار مشروع الإسلام السياسي.. وستجد في المقابل من يعتقد أن انتصار المقاومة يعني انتصار «حماس»، وعلى «حماس» توظيف فعل المقاومة لصالح مشروعها الحزبي، ولا أهمية لمصير القضية الفلسطينية.
في الجهة الأولى سنجد «حماس» وأنصارها. وللدقة، سنجد هنا أيضاً تياراً كبيراً من «فتح». فمثلاً في حواراتي مع أصدقاء فتحاويين، ومن مطالعاتي لمقالات لكوادر ومثقفين فتحاويين لمست تأييداً واضحاً وقوياً للمقاومة (التي تمثلها «حماس» الآن) وإشادة ببطولات «القسام»، ورغبة صادقة بانتصار المقاومة، ويمكنني القول بثقة: إن أغلبية القواعد التنظيمية لـ»فتح» تقف مع «حماس» في المعركة، ودون تحفظ.
وفي الجهة المقابلة سنجد طيفاً واسعاً متعدداً يحمّل «حماس» مسؤولية مغامرتها.. سنجد هنا أناساً من «فتح»، ومن سائر الفصائل والتيارات الفكرية والسياسية، وربما من داخل «حماس» نفسها، إضافة إلى أناس مستقلين، ومن هذا الطيف الواسع ستجد من يصطف في الجهة المقابلة أيضاً.. بمعنى أن هناك اتفاقاً عاماً ولكن مع خلافات على التفاصيل، فالجميع متفق على أهمية المقاومة، ومشروعيتها، لكن الخلاف على الأدوات والأساليب.
وللتوضيح، هناك حالة استقطاب حادة بين جهتين، وأغلبية الجمهور تقف في المنتصف، تعيش حالة من التيه والحيرة، هم الآن مع المقاومة وهذا شيء طبيعي ومتوقع طالما أن المقاومة تخوض معاركها ضد الاحتلال، ولكنهم في الوقت ذاته يرون صور الضحايا والأطفال والهدم والدمار، والخوف من المستقبل.. وهنا تنقسم الشخصية إلى شطرَين، بيد أن هذا الانشطار لن يمكث طويلاَ.. ومن شبه المؤكد أن السواد الأعظم من الجمهور سيحسم حيرته وسيحدد موقفه استناداَ إلى نتائج الحرب، وحينها علينا الإجابة بصدق عن الأسئلة الأهم: هل كانت التضحيات توازي المنجزات؟ وما تلك المنجزات التي يتعذر تحقيقها إلا من خلال حرب مدمرة؟ هل شكلت الحرب خطوة إضافية تقربنا من التحرير أم أعادتنا إلى الخلف خطوات؟
وللتوضيح أكثر، سنجد على يمين الجهة الأولى كتلة من المؤيدين بشدة، وبتعصب، وبدرجة من التطرف.. كما سنجد على يمين الجهة الثانية كتلة مقابلة متعصبة ومتطرفة ومتشددة.. وبسبب العواطف المشحونة سنجد الاستقطاب على أشده بين الجمهور العادي (غير المؤدلج، وغير المحزب).
وقبل التسرع في إصدار الأحكام والتصنيفات والحديث عن المرجفين، أو المتهورين.. لنحاول فهم هذه الخلافات بعيداً عن التشنجات السياسية والأيديولوجية.
هذه الخلافات موجودة بالفعل، ومنذ زمن بعيد، وللأسف بسبب غياب شخصية قيادية جامعة، وبسبب عدم وجود إستراتيجية كفاح وطني متفق عليها وملزمة للجميع، قائمة على أساس برنامج وطني مقاوم، وبسبب التنافس الحزبي، وغياب الحوار الوطني، وانعدام الثقة، وتدخل أطراف خارجية، ودخول البعض في لعبة المحاور الإقليمية والصراع على من يمثل الشعب، ومن يفاوض، ومن يقود المنظمة والسلطة. أدى هذا كله إلى تفاقم الخلافات وصولاً إلى الاقتتال الداخلي، ومن ثم الانقسام، الذي أضر بالجميع وأضعف القضية الفلسطينية.
حتى هذه اللحظة حالة التناقض الحادة بين الجهتين لم تصل إلى حد الاشتباك، ذلك لأن الجميع يحاول تجميد التناقض، وعدم الإفصاح عما يجول في القلوب والخواطر، ويتم الحديث فقط داخل الجدران المغلقة، وبالهمس، وبعيداً عن الإعلام.. فالكل متفق على أهمية التجند للمعركة، ونبذ الخلافات، والابتعاد عن كل ما يمكن أن يضر بالجبهة الداخلية، ويمس بالوحدة الوطنية، وهذا أمر جيد، لكن الخطورة تظل قائمة مع وجود المتطرفين من الجهتين، ومع الحرب النفسية التي يشنها العدو باستخدام عملائه وأدواته الإعلامية.. والأخطر من ذلك، أن حالة الصمت، أو القبول على مضض، وتأجيل الخلافات، وكبح تطورها إلى نزاع مسلح هو وجود الاحتلال وأجواء المعركة.. فهل هذا يعني أنه بزوال الاحتلال، سنتصرف تجاه بعضنا بهذه العقلية الإقصائية وبنهج التخوين والتكفير، وربما ندخل في حرب أهلية!
هذا كله خطير، جعل الساحة الفلسطينية متوترة ومتشنجة وعلى صفيح ساخن، وتنذر بقدوم الأسوأ، خاصة مع غياب التعقل والحكمة، وهيمنة روح التخوين والاتهامات المتبادلة وتصفية الحسابات.. ولا حل أمامنا إلا الحوار العقلاني المبني على الثقة والتكامل، ونبذ نهج الإقصاء والتفرد.. وأن نجري تقييماً ومراجعة نقدية جريئة لكل ما سبق، فكل طرف لديه أطروحة تحتمل الصواب والخطأ، وهناك إمكانية وضرورة للاتفاق على القواسم المشتركة.. والجميع دون استثناء اقترف أخطاء فظيعة بحق الشعب، وبحق الكفاح الوطني، وبحق فلسطين وقضيتها.. وآن الأوان لنستفيد من أخطائنا، وأن نتحد بروح وطنية مسؤولة.. فدرب التحرير والحرية ما زال طويلاً وشاقاً.. وإذا ما استمررنا بالتفكير والتصرف بنفس الأخطاء والمنهجية لن نجني سوى الدمار والخراب.. ومن المفترض أن دماء أطفال غزة تضعنا أمام مسؤوليتنا.