فيما يدخل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أسبوعه السابع، تاركا خلفه الكثير من الأضرار البالغة والدمار الذي لم تسلم منه المستشفيات أو المساجد أو الكنائس أو المدارس أو المخيمات، وقد بلغ عدد الشهداء أكثر من 14128، بينهم أكثر من 5840 طفلا، و3920 امرأة، بينما تجاوز عدد الإصابات 33 ألفا، ما يزال الصحافيون الغربيون يرافقون جيش الاحتلال في كل تحركاته وعملياته التي طاولت مختلف مناطق القطاع الذي يشهد حصارا خانقا منذ عام 2007، راصدين حجم الدمار والمآسي الإنسانية التي يعانيها سكانه البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة تقريبا.
تدمير نصف المباني في شمال غزّة
ونشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" الاثنين، تقريرا يوثق بالخرائط حجم الأضرار الذي لحق بجزء كبير من شمال غزة، ما أدى إلى إلحاق أضرار بالغة بأكثر من نصف المباني ومساحات كبيرة من الأحياء بأكملها وفقا لبيانات القمر الصناعي (سانتنال-1) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية. واستخدم كوري شير من مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، وجامون فان دن هوك من جامعة ولاية أوريغون، خوارزميات لحساب عدد المباني التي تضررت، مشيرين إلى تضرر ما لا يقل عن 50% من بنية شمال غزّة منذ بدء الحرب. وكل هذا الضرر تذرع الجيش الإسرائيلي بأنه ضروري لتحقيق أهدافه العسكرية، والآن تحول إسرائيل تركيزها شرقا إلى مدينة غزة ثم إلى جنوب غزة، حيث تعهد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت نهاية الأسبوع الماضي بأن الحرب ستمتد إلى بقية أنحاء غزة قريبا، وقال لراديو كان: "الأشخاص الذين كانوا في الجانب الغربي من المدينة واجهوا بالفعل القوة المميتة للجيش الإسرائيلي، والناس الذين هم على الجانب الشرقي يدركون ذلك، وسيدرك الأشخاص الذين يعيشون في جنوب قطاع غزة ذلك قريبا أيضا".
واجتاحت القوات الإسرائيلية قطاع غزة من الشمال بعد وابل متواصل من القصف الجوي، وجرفت آليات الاحتلال مساحات كبيرة من الأراضي مدمّرة كل شيء في طريقها لإنشاء قواعد أمامية للجيش الإسرائيلي وتبعتها أعداد كبيرة من المشاة، حيث تحركت عبر بلدات صغيرة مهجورة إلى حد كبير مثل بيت حانون. وبعد أكثر من شهر، تعرض ما يقرب من نصف المباني في منطقة شمال غزة لأضرار بالغة، حسبما يشير تحليل بيانات الرادار، إلا أن الأطراف الشمالية لقطاع غزة كانت مجرد نقطة انطلاق للغزو الإسرائيلي لمدينة غزة. ويظهر تحليل الأضرار أنه عندما تحركت القوات الإسرائيلية نحو هدفها الرئيسي (مستشفى الشفاء) شقت طريقا عبر الأحياء لبلوغ الهدف، وخاصة مخيم الشاطئ للاجئين، حيث عاش ذات يوم زعيم حركة حماس المقيم في الخارج إسماعيل هنية، وتظهر بيانات الرادار أن 30% فقط من المخيم بقي سليما، بينما تعمل القوات الإسرائيلية الآن شرق تلك المواقع، وهي الأماكن الوحيدة في مدينة غزة التي لم تتضرر نسبيا، بحسب ما تنقل الصحيفة.
وبحسب "فاينانشال تايمز"، لم تتضرر منطقة دير البلح حتى الآن، وهي الجزء الجنوبي من قطاع غزة الذي تنتشر فيه أشجار النخيل ومزارع تربية الخيول، وتعد موطنا للمزارعين والعقارات الريفية للعائلات الأكثر ثراء، وهي أقل كثافة سكانية من المناطق المكتظة بالسكان في مدينة غزة ومخيمات اللاجئين المكتظة بها، لكن إلى الجنوب الشرقي تقع خانيونس التي كشف الجيش الإسرائيلي عن نيته توسيع عملياته فيها، وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، استيقظ سكان أربعة أحياء – يسكنها أكثر من 100,000 شخص – ليجدوا آلاف المنشورات من الجيش الإسرائيلي تأمرهم بإخلاء منازلهم.
وأخبر المسؤولون الإسرائيليون نظراءهم الغربيين أنهم يشكون باختباء قادة حماس جنوب خط الإخلاء الذي أمروا الفلسطينيين بعبوره حفاظا على سلامتهم، بينما طالب المسؤولون الأميركيون والأوروبيون إسرائيل بأن تكون أكثر "دقة واستهدافا" في عملياتها للحد من الخسائر في صفوف المدنيين، وفق ما تنقل الصحيفة.
يعيش أغلب سكان غزة المدنيين البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة في جنوب غزة تحت خط الإخلاء، وهي هجرة قسرية يشبهها الفلسطينيون بتلك التي حدثت أثناء نكبة عام 1948، عندما هُجر أجدادهم وطردوا من بيوتهم لصالح إقامة دولة "إسرائيل" عام 1948، وقد أقيمت مدن كبيرة من الخيام لإيوائهم، كما يتقاسم العشرات من السكان الشقق وسط ندرة الغذاء والماء والكهرباء، لكن المساعدات تدخل إلى مكان قريب من مصر، وتستطيع الأمم المتحدة توزيع الإمدادات الأساسية بسهولة أكبر، ورغم ذلك، يسعى جيش الاحتلال إلى تحريك سكان جنوب غزة مرة أخرى نحو مربع صغير من الأرض يسمى (المواصي) على طول الساحل بين رفح وخانيونس.
شمال قطاع غزّة "قوقعة مجوفة"
"قوقعة مجوفة" ، هكذا وصفت مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية محافظة شمال غزة التي كان يسكنها زهاء مليون شخص في تقرير نشرته في الـ15 من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، حين دعيت قبل ذلك بيوم للانضمام إلى قافلة إمدادات عسكرية إسرائيلية متجهة إلى الشاطئ، وهو مخيم للاجئين كان مكتظا في شمال غزة، إلا أنها لم تجد أياً من سكانه البالغ عددهم 90 ألف نسمة، حيث دُمرت الطرق والعديد من المباني السكنية الكثيفة في المخيم، ولم تعد البنية التحتية للكهرباء والمياه والصرف الصحي موجودة، والوضع مماثل في معظم أنحاء مدينة غزة وفي البلدات النائية.
وبحسب المجلة، فإن هذا الوضع يثير سؤالين مهمين: الأول، والأكثر إلحاحاً، هو كيفية تخفيف الكارثة الإنسانية في جنوب غزة الذي يعيش فيه الآن أغلب سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون، والثاني هو ما سيحدث بعد ذلك في ساحة المعركة، لا سيما وأن الاحتلال الإسرائيلي لم يعثر بعد على زعيم الحركة في غزة يحيى السنوار، أو قائدها العسكري محمد الضيف، وكلاهما يعتقد الاحتلال أنهما مختبئان في متاهة الأنفاق تحت القطاع، ومن المقرر أن تقضي القوات الإسرائيلية الأسابيع المقبلة في تفجير مداخل تلك الأنفاق وتمشيط الشمال بحثا عن الأسلحة والمسلحين، ومع ذلك، في مرحلة ما، ستحول إسرائيل اهتمامها إلى الجنوب. وسيعتمد حجم ما ستتمكن من فعله هناك على السياسة الداخلية والضغوط الدبلوماسية.
وأضاف التقرير أن إسرائيل صبت كل تركيزها الفترة الماضية على مستشفى الشفاء، لاعتقادها بوجود مقر لقادة حماس تحته، فضلا عن احتجاز أسراها البالغ عددهم 239 هناك، وبينما كان العدد الصادر أخيرا من مجلة "ذا إيكونوميست" في طريقه إلى المطبعة ولم يشهد نتائج ما بعد اقتحام المستشفى بالكامل، إلا أن التقارير الأولية تشير إلى أن جيش الاحتلال لم يعثر على قيادة حماس ولا على أي من الرهائن، كما اختفى أيضًا معظم الفلسطينيين البالغ عددهم 60 ألفًا أو نحو ذلك الذين كانوا يحتمون بالمستشفى في الأيام الأولى للحرب، وعندما دخلت القوات الإسرائيلية، لم يبق سوى حوالي 1500 شخص، وهم مزيج من الطاقم الطبي والمرضى والنازحين، حيث لجأ معظمهم إلى الجنوب، وكان الشمال موطنا لأكثر من نصف سكان غزة، إلا أنه بات الآن أرضا قاحلة مهجورة، كما تصف "ذا إيكونوميست".
منذ 21 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما وافقت إسرائيل على السماح بدخول المساعدات عبر مصر، نقلت حوالي 1200 شاحنة المواد الغذائية والأدوية وغيرها من الضروريات عبر معبر رفح (قبل الحرب، كان يدخل إلى غزة حوالي 500 شاحنة يوميًا)، واليوم يتخطى العديد من الناس في الجنوب وجبات الطعام ويكافحون من أجل العثور على المياه النظيفة، ومع حظر إسرائيل لشحنات الوقود بشكل شبه كامل، لجأ بعض الفلسطينيين إلى حرق الأثاث كحطب للطهي.
هذا النقص بالوقود شل الخدمات الأساسية، وتوقف ما يقرب من ثلثي مرافق الرعاية الصحية عن العمل، كما توقفت محطات ضخ مياه الصرف الصحي عن العمل أيضا، وفي ظل ذلك قالت لجنة الإنقاذ الدولية إن الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والتيفوئيد ستبدأ حتماً في الانتشار. وفي 14 تشرين الثاني/نوفمبر أعلنت الأمم المتحدة أن عمليات تسليم المساعدات ستتوقف قريبًا، وفي اليوم التالي، دخلت ناقلة محملة بـ23 ألف لتر من الديزل إلى غزة قادمة من مصر، وهي أول شحنة من نوعها تسمح بها إسرائيل منذ بدء الحرب، وهي كذلك تمنع استخدام الوقود إلا من قبل الأمم المتحدة، وليس من قبل المستشفيات، كما أغلقت معبر (كرم أبو سالم) الذي كان تدخل منه ثلثا الشاحنات منذ عملية طوفان الأقصى، ولا تسمح إلا بالقليل من الدعم وسط معارضة شديدة من الأحزاب اليمينية المتطرفة في حكومة بينامين نتنياهو، ومع الهطول الغزير للأمطار في الأيام الماضية، انهارت خيام اللاجئين، بينما ينام البعض الآخر في الوحل.
وتختم "ذا إيكونوميست" تقريرها بالسؤال عن الخطوة التالية لجيش الاحتلال، بعد أن أمضى الجنود برفقة الدبابات والكلاب البوليسية وفرق التدمير، أكثر من أسبوعين يتنقلون من منزل إلى منزل في شمال قطاع غزة بحثا عن أسلحة وممرات تؤدي إلى أنفاق حماس، حيث يتم استهداف المباني المشبوهة بالدبابات أو الضربات الجوية، وبعد ذلك، يقوم الجنود، جنبا إلى جنب مع الكلاب وخبراء المتفجرات، بعمليات التفتيش. ولا يسمح لهم بالمغامرة في الأنفاق، ويعلم جنرالات إسرائيل أنهم لن يتمكنوا من العمل في جنوب غزة بنفس الشراسة التي يتصرفون بها في الشمال، وبدلاً من ذلك، يخططون لشن هجوم "أكثر قدرة على الحركة"، ولكن أي عملية من المحتمل أن تعرقل جهود الإغاثة وتتسبب في غضب دولي، وهو ما يتصاعد بالفعل، ففي قمة عقدت في السعودية هذا الشهر طالبت الدول العربية والإسلامية بوقف القتال، وهو ذات الطلب الذي بدأ يردده بعض الزعماء الغربيين وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع (بي بي سي)، ولا يزال جو بايدن يرفض الهدنة الدائمة، رغم أنه يتعرض لضغوط بعض السياسيين في حزبه (الديمقراطي) من أجل وقف إطلاق النار. وأعلنت قطر صباح اليوم عن التوصل لاتفاق هدنة إنسانية مؤقتة لأربعة أيام وتبادل للرهائن بين حماس وإسرائيل، ويتوقع أن يبدأ سريان وقف إطلاق النار خلال ساعات، على أن تبدأ عملية التبادل غدًا الخميس.