دولة فلسطين مصلحة إقليمية..رجب أبو سرية

الثلاثاء 21 نوفمبر 2023 12:18 م / بتوقيت القدس +2GMT
دولة فلسطين مصلحة إقليمية..رجب أبو سرية




صحيح أنه قد مضى على إقامة إسرائيل خمس وسبعون سنة، وأنه قد مرت على احتلالها لأرض دولة فلسطين، أكثر من ست وخمسين سنة، لكن ذلك لا يعني بأن إمكانية أو احتمال زوال الاحتلال لم تعد قائمة، وحيث يعد كثير من المراقبين بأن احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، يعتبر آخر استعمار تشهده البشرية، وواحداً من أطول الاحتلالات في التاريخ. ففرنسا التي سبق لها واحتلت الجزائر عام 1830، ومن ثم أقدمت على ضمها لها، أي اعتبرتها جزءاً من الأرض والدولة الفرنسية، وسعت إلى فرنسة البلد العربي الأفريقي، إلا أنها واجهت بعد أكثر من 120 سنة حرب استقلال استمرت سبع سنوات، قدم خلالها الجزائريون مليوناً ونصف مليون من الشهداء على مذبح الاستقلال، وهكذا انسحبت فرنسا عام 1963 من الجزائر، ليعلن استقلاله خلال ذلك العام.  
وطوال عقود مضت، كانت دول الاحتلال في أغلبها دولاً عظمى، أي بريطانيا، فرنسا، ثم بدرجة أقل ألمانيا، اليابان، وكل من البرتغال واسبانيا، أي أنه نادراً ما شهد التاريخ الحديث استعمار دولة لا تعد دولة عظمى، ولا حتى دولة إقليمية تقليدية، لأرض دولة أخرى، وإن كان العالم يعج بخلافات وصراعات حدودية، حيث تتداخل حدود الدول ومواطنوها، نظراً لأن معظم دول العالم، لا تمتد عبر مساحات جغرافية شاسعة تفصل بينها الحواجز الطبيعية، كما الحال بين كل من الهند وباكستان في كشمير، كذلك يشهد العالم، بعضاً من المشاكل الناجمة عن مخلفات الاصطفاف السياسي بين معسكري الحرب الباردة، أو مواجهة إرث الحرب العالمية الثانية، ونقصد بذلك مشكلة الصين مع تايوان، الدولة التي تحتمي بالغرب الأميركي من أجل أن تبقى خارج نطاق دولة الصين، في حين أن الصين التي يعترف لها العالم بمبدأ الصين الواحدة، تسعى إلى ضم تايوان.
لن نعود إلى البحث في هذا المقال، عن جذور أو حتى نتائج حرب العام 1948 في فلسطين التي رافقت انتهاء انتداب بريطانيا، التي كانت قد خرجت من الحرب العالمية الثانية كمنتصرة ضمن محور الحلفاء، لكن كخاسرة لموقعها القيادي، للمعسكر الغربي أو المعسكر الرأسمالي على الأقل، بعد أن نشأ فور انتهاء تلك الحرب معسكرا الحرب الباردة، ومنهما المعسكر الرأسمالي الذي قادته الولايات المتحدة خلفا أو بدلا عن بريطانيا التي لم تعد منذ ذلك الوقت عظمى، لأنه نجم أيضا عن انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع ظهور المعسكر الشرقي، وحربه الباردة مع المعسكر الغربي، حركات التحرر فيما عرف بالعالم الثالث، والذي كانت دوله بمعظمها محتلة من قبل بريطانيا وفرنسا، وهي الحركات  تلك التي قادت بلادها للاستقلال عن الاستعمار، وهنا تكفي الإشارة إلى استقلال الهند وباكستان، كذلك مصر والعراق، عن بريطانيا للتدليل عما فقدته بريطانيا من قوة ومكانة عالمية، رغم أنها انتصرت مع حلفائها في الحرب العالمية الثانية.
الحروب إذا لا تقاس حتى في نتيجتها المباشرة، بتصنيف المهزوم والمنتصر، لأن النتائج قد تنقلب بعد مضي بعض السنين، وهنا يمكن لنا أن نشير إلى ما حدث مع كل من ألمانيا واليابان، اللتين خسرتا الحرب العالمية الثانية، بل وفرضت عليهما اتفاقيات الاستسلام، وعدم امتلاك جيش وعدم التسلح، لتعوضا ذلك بتحقيق المكانة الاقتصادية، التي جعلت من ألمانيا تعود اليوم لقيادة الاتحاد الأوروبي، والسعي لأن يكون ذلك الاتحاد واحدا من أقطاب النظام العالمي، فيما اليابان ظلت لعدة عقود القوة الاقتصادية الأهم في الشرق، إلى أن سارت على طريقها كوريا الجنوبية، ومن ثم تايوان، ومن ثم ما سمي بنمور آسيا، ومن ثم الصين.
وكما كان عالم الحرب الباردة هو غيره عن عالم ما قبلها، إن كان وفق صيغة النظام العالمي، الذي كان قائما على مركز وحيد هو الغرب الأوروبي، أو كان وفق صيغة الحروب الساخنة التي قامت بسبب التنافس على السيطرة على العالم بين الرأسماليات الغربية، أولا بين فرنسا وبريطانيا، ثم بين ألمانيا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، حيث بدأ النظام العالمي ثنائي القطبية، من حيث انتهى النظام العالمي الذي كانت تتقاسمه رأسماليات الغرب الأوروبي، أي حيث انتهت الحرب العالمية الثانية باستخدام أميركا للقنبلة النووية التي كانت قد أنتجتها خلال الحرب، على كل من هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين، فإن الحرب الباردة، صارت باردة هكذا، لأنه كان من شأن حرب ساخنة بين قطبي النظام العالمي أن تؤدي إلى فناء البشرية.
ورغم دخول قطبي النظام العالمي خلال الحرب الباردة في سباق تسلح، وصل ذروته بما سمي بحرب النجوم، وغزو الفضاء، وامتلاك كل من الاتحاد السوفياتي ثم روسيا والولايات المتحدة لأكثر من خمسة عشر ألف رأس نووي، إلا أن اتفاقيات الحد من السلاح النووي جعلته قصرا على تسع دول فقط حتى الآن، هي بالطبع: أميركا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا (أي الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي) الهند، باكستان، كوريا الشمالية، وإسرائيل. لكن ذلك لم يمنع من تورط المعسكرين أو على الأقل قيادتيهما في حروب إقليمية، حيث كان التنافس خلال الخرب الباردة على النفوذ كبيرا، فحيث أن الولايات المتحدة ورثت الاستعمار الفرنسي لفيتنام، وتورطت عسكريا من خلال إرسال قوات عسكرية لتحارب مع حكومة الجنوب ضد حكومة الشمال التي كانت تحسب على المعسكر الشرقي، فإن كلا من الاتحاد السوفياتي والصين كانا يساندان هوشي منه رئيس الشمال والفيتكونغ في مقاومة الاحتلال الأمريكي وحكومة الجنوب.
في حين أن أميركا دعمت قوات مقاومة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان حيث دخلت موسكو ذلك البلد الآسيوي لتساند نظام الرئيس باراك كارمل الشيوعي، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهكذا في كل نقطة صراع إقليمي، كنا إزاء طرفين أحدهما محسوب على الشرق والآخر على الغرب، ولعل هذا التصنيف كان ينطبق أيضا على القضية الفلسطينية، التي رغم أنها شهدت إعلانا لإقامة دولة لم تكن موجودة، بل ولم تعبر عن الشعب الفلسطيني المحتل من قبل الانتداب البريطاني، نقصد إعلان قيام إسرائيل، فإن ذلك الإعلان كان مشروطا من قبل الأمم المتحدة، بأن يكون جزءا من الحل، حل المسألة اليهودية، بإقامة وطن قومي وفق وعد بلفور، وحل الصراع على الأرض بين العرب الفلسطينيين واليهود الذين صاروا إسرائيليين بعد ذلك، ثم اتبعت الأمم المتحدة ذلك رسميا بإصدار قرار التقسيم، الذي اقر بدولتين تتقاسمان الأرض تقريبا، مع إخراج الحوض المقدس المحيط بمدينة القدس من الصراع بتدويله.
ولا بد هنا من ملاحظة أن الإعداد لإقامة دولة إسرائيل ترافق مع الحرب العالمية الأولى، وذلك لأن بريطانيا التي كانت تقود النظام العالمي الاستعماري سعت أولا إلى كسب اليهود الذين كانوا مؤثرين ماليا وإعلاميا، إلى صفها في الحرب ضد ألمانيا، ثم إلى إقامة «قاعدة» متقدمة في الشرق لتحافظ على نفوذها، ثم ترافقت إقامة دولة إسرائيل مع الحرب الباردة، حيث اعتبرها الغرب رأس حربته في مقاومة النفوذ الشيوعي السوفيتي في المنطقة، ولهذا ورغم اندلاع حرب عربية_إسرائيلية، ومع ظهور حركة التحرر الفلسطيني، ومع إقرار العالم كله بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، إلا أن الدولة الفلسطينية لم تقم، لأن قيامها خلال الحرب الباردة كان يعد انتصارا للمعسكر الشرقي وهزيمة للمعسكر الغربي.
كذلك لم تقم دولة فلسطين رغم الاعتراف الدولي للشعب الفلسطيني بهذا الحق، ورغم توقيع اتفاق أوسلو مع إسرائيل نفسها، وذلك لأن إسرائيل نظرت إلى انتصار الغرب في الحرب الباردة على أنه نصر لها، يضمن لها الاحتفاظ بأرض دولة فلسطين المحتلة وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه الوطني في دولة مستقلة.
واليوم لا بد في ظل عالم متغير، صار يقوم على أساس المصالح، بدلا من الأيديولوجية، أن ننظر إلى إمكانية إقامة دولة فلسطين بمنظار مختلف عن مجرد أن لشعبها الحق في ذلك، وإن كنا نعتقد بأن قيام تلك الدولة مرهون بمضمونها، لذا صرنا نفكر بطريقة أخرى فنقول بأن قيام دولة فلسطين سيتحقق حين يحقق مصلحة للإقليم، أي للشرق الأوسط، وفي الدرجة الأولى لجيران فلسطين، وبشكل محدد كلا من الأردن ومصر،  ثم حين يكون للجيران في الحلقة التالية، أي الخليج وإيران وتركيا والعراق، مصلحة في قيام تلك الدولة، وذلك حتى يكون بمقدور الإقليم أن يفرض إرادته على إرادة الاحتلال الإسرائيلي، الذي ظل وسيظل يكافح من أجل منع إقامة تلك الدولة.