ثلاثة مفاتيح لعنف غير مسبوق..!! حسن خضر

الثلاثاء 14 نوفمبر 2023 04:18 م / بتوقيت القدس +2GMT



لا تشكو الحرب الحالية ندرة الخبراء في شؤون القتال والسياسة والاستراتيجية. وغالباً ما لا يتردد أغلب هؤلاء في إصدار أحكام قاطعة، أو شبه قاطعة، سواء تعلّق الأمر بسير العمليات، أو أهداف الحرب، ونتائجها.
ومع ذلك، لا أعتقد أن ثمة مجازفة في القول إن أهداف الحرب، كما نتائجها، لا تبدو واضحة بالشكل الكافي، في الوقت الحاضر، حتى في أذهان المتحاربين أنفسهم، فالنتائج محصلة حقائق في الميدان، وتفاعلات وحسابات سياسية متغيّرة في الإقليم والعالم.
فتكرار المظاهرات الرافضة للحرب في عواصم الغرب واتساع نطاقها، مثلاً، قد يغيّر النتائج بطريقة حاسمة. وهذا يصدق، أيضاً، في حال وجود مؤشرات جدية على تحوّلات راديكالية محتملة في الحواضر العربية، أو احتمال توسّع ساحات القتال.
لكل هذه الأسباب، وما يدخل في حكمها، فلنفكّر في "الصورة الكبيرة" للحرب من ناحية، وفيما لا يحظى بالاهتمام، رغم صلته العضوية بها، من ناحية ثانية. وعلى هذا النحو تتموضع معالجة اليوم كامتداد لمعالجة سبقت بعنوان "الحرب التي تتوّج حروباً وتُفسّرها".
وما يعنينا، هنا، هو وضع وتيرة العنف غير المسبوق الذي يمارسه الإسرائيليون (حتى بمقاييسهم التقليدية) في الحرب الحالية في إطار أعرض، يمكننا (1) من إنشاء صلة بينها وبين حالات عنف سبقت في الإقليم. و(2) إضفاء دلالة سياسية على حالات العنف، فالكلام عن الإبادة وجنون القتل، يظل ملتبساً ومنقوصاً ما لم نعرّفه، ونتعرّف عليه، بدلالته السياسية، بدلا من الاكتفاء بتجريم ماهيته الغرائزية، وصلته بفكرة الشر المُطلق.
وبهذا المعنى، نقيم تعارضاً دلالياً بين منطقين: (1) منطق وصف الفاعلين الفلسطينيين يوم السابع من تشرين الأوّل الماضي بالحيوانات البشرية (تكرر على ألسنة الكثير من الإسرائيليين مسؤولين وغيرهم) طالما أن في الاكتفاء بالماهية الغرائزية ما يُعفي من محاولة العثور على دلالة سياسية. وهذا، في التحليل الأخير ينسجم مع فكرة الضحية، التي لا تكون مثالية تماماً إلا إذا استعصى فعل الشر نفسه على التعريف. و(2) منطقنا نحن، الذي لا يعفي عنف الفاعلين الإسرائيليين من دلالته السياسية، ويسعى لانتزاع قناع الضحية المثالية عن وجوههم.
وبناء عليه، نتأمل مشهد العنف في الإقليم من خلال حالات منتخبة، ومع أرقام تقريبية، في إطار عام وعريض لفرضية مفادها أن العالم العربي يعيش حالة من الحرب الدائمة منذ بداية هذا القرن. قُتل في حالة الحرب الدائمة هذه ما بين 280 - 350 ألفاً من العراقيين منذ الغزو الأميركي، إضافة إلى ملايين من الجرحى، والنازحين واللاجئين في الداخل والخارج.
وفي سورية قُتل ما بين نصف مليون وستمائة ألف منذ العام 2011 وحتى أوائل العام الحالي، ما عدا ما يحسب بمئات الآلاف من الجرحى والمفقودين والمعتقلين، وقرابة عشرة ملايين من النازحين واللاجئين في الداخل والخارج. وتفيد بعض الإحصاءات أن 110 آلاف سقطوا في العام 2015، الذي كان الأسوأ على الإطلاق.
وفي اليمن، قُتل 377 ألفاً حتى نهاية العام الماضي، منهم قرابة 150 ألفاً سقطوا في القتال، بينما قتلت المجاعة والأمراض عشرات الآلاف في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في هذا القرن. ويمكن الاستطراد بأرقام إضافية من ليبيا، والسودان، ومصر.
تبدو الحالات المذكورة فريدة، بقدر ما يتعلّق الأمور بخصوصياتها المحلية، إلا أن إطارها العام والعريض يندرج في محاولة أميركية لتفكيك وتركيب الشرق الأوسط، كانت الحرب على الإرهاب نقلتها الافتتاحية، وتصاعدت في غزو واحتلال العراق، وارتدت لاحقاً أقنعة مختلفة، في حروب الثورة المضادة لمجابهة ثورات الربيع العربي، بالتعاون مع الإبراهيميين، بطبيعة الحال.
وتكفي الإشارة، هنا، إلى أهم القواسم المشتركة في كل الحالات السابقة: كلها حروب هجينة، اجتمعت فيها سمات الحرب الأهلية، وحرب الدولة على مواطنيها (كما في الحالة السورية، التي أغارت فيها الدولة على مواطنيها بالطائرات) والغزو الخارجي، الذي يموّه حقيقته بقناع الحرب الأهلية، أو في صورة غزو وتدخلات عسكرية سافرة، كما في سورية وليبيا والعراق واليمن.
لم تسفر حالة الحرب الدائمة هذه عن تفتيت مجتمعات، وتقويض دول كانت مركزية وحسب، بل أسهمت في تطبيع فكرة العنف بوصفه وسيلة لحل النزاعات، أيضاً. والصحيح أن تطبيع العنف وثيق الصلة بفرضية مفتعلة ومبتذلة مفادها أن لهذا الجزء من العالم خصوصيات دينية، وثقافية، لا يصلح معها العلاج بالقوانين الدولية، وقيم الديمقراطية وحقوق المواطنة والإنسان. يعني: رفعت حالة الحرب ما ترى فيها من خصوصيات، فوق قيم متداولة، وتحظى بالاعتراف، في أماكن أُخرى من العالم.
وبهذا المعنى، وجدت كل كيانات الشرق الأوسط، تقريباً، ما يمكنها من التقاط بعض الكستناء الساخنة في وليمة الخصوصيات الدينية، والاجتماعية، والسياسية، التي تضفي على ما كان رجعياً وظلامياً في وقت مضى، دلالة الفريد والأصيل والأصلي، الأكثر انسجاماً مع هوية وهمية، صارت بدورها دليلاً على التفوّق. وبهذا المعنى، وفيه، وجد الكثير من هؤلاء أنفسهم على سرير واحد مع الإسرائيليين، ملوك الخصوصيات الأمنية، والدينية، والثقافية، خاصة بعدما صعد نجم هؤلاء كقوّة إقليمية، وحماة محتملين.
ثمة الكثير مما ينبغي أن يُقال. ولكن يكفي أن لدينا ثلاثة مفاتيح: حالة الحرب الدائمة لفك وتركيب الشرق الأوسط، تطبيع العنف، والنوم على السرير الناعم للخصوصيات. وبهذا المعنى تتموضع الحرب الحالية في إطار أعرض. فاصل ونواصل.